حلقات قديمة يعاد نشرها بعد مرور ٢٥ سنة .. لأهميتها .
غني عن الذكر أن الزراعة في هذا البلد هي عمود الإرتكاز الذي قامت عليه نهضة السودان الحديث بكافة مرافقه وخدماته وبنياته التحتية .. وقد كان ذلك واضحاً منذ دخول الإنجليز إلي السودان مع بداية القرن العشرين حين تأسست في لندن ما تسمي بشركة السودان الزراعية وهي شركة قطاع خاص بريطانية لتعمل في الإستثمار الزراعي لزراعة القطن تحديداً بالسودان بعد الفتح الإنجليزي المصري . لكن ما يدعو إلي التعجب أن الشركة لم تضع حصصأً لمشاركة الشريك الثاني في حكم السودان وهي الحكومة المصرية في عهد الملك أحمد فؤاد الأول الذي ورث عرش مصر من آخر خديوي ألباني من سلالة محمد علي .. خاصة وأن محمد علي باشا هو وأبناؤه وأحفاده من بعده يعتبرون حتي اللحظة هم واضعو لبنة بناء مصر الحديثة .
و كانت شركة السودان الزراعية المسجلة في لندن قد إكتشفت بواسطة خبرائها أن بلاد السودان تصلح جداً لزراعة وإنتاج القطن بكافة أصنافه ( طويل التيلة وقصيرها والقطن الأكالا ) .. لذلك فقد بدأوا زراعته بمشروع الزيداب – غرب النيل – في العام1901م ( ولاية نهر النيل حالياً ) وإستخدموا فلاحين وخبراء أمريكان ( زنوج) لتأسيس العمل وإدخال زراعة القطن بالزيداب حيث كانوا يستخدمون الطلمبات التي ترفع المياه من النيل لتصب في الترعة الرئيسية التي تنقل المياه إلي داخل الأراضي الزراعية ، كما أقاموا محلجاً لحلج القطن هناك .. ومن ثم يتم نقل بالات القطن بعد حلجه عن طريق مقطورات نهرية إلي محطة السكة الحديد بالضفة الشرقية للنيل ، ومن ثم بالقطار إلي ميناء التصدير ببورتسودان التي تم إنشاءها بديلا لسواكن القديمة .
ولكن في الزيداب سرعان ما إكتشفت الشركة أن المساحات هناك لا ترضي طموحها نظراً للتمدد الصحراوي غرباً ( عشرة آلاف فدان فقط ) ، حيث أن الشركة الزراعية في بريطانيا كانت ترغب في كميات كبيرة من الأقٌطان بسبب إرتفاع خام القطن عالمياً في بداية القرن الماضي حتي لايحدث كساد في مصانع النسيج الإنجليزية بلانكشير وهو قطاع له مردوده المالي العالي للشركات والبنوك المساهمة في تأسيس تلك الصناعات ، ما حدا بشركة السودان الزراعية للتفكير في نقل التجربة لمنطقة السهول الفيضية الحالية ذات المساحات الشاسعة ، أو بما يسمي منطقة الجزيرة المروية ( ما بين النيلين) . وقد تم نقل محافظ مشروع الزيداب إلي مشروع الجزيرة وهو ( مستر ماركنتايل ) الذي خدم بالشركة الزراعية لأكثر من خسمة عشر عاماً بالسودان وقد إكتسب خبرة عالية في هذا المجال ثم عاد إلي لندن ليخلفه (مستر رايت ) .
ونحن هنا حين نعود للكتابة في هذا المجال مرة أخري بعد مرور سنوات عديدة في طرقنا لهذا الشأن صحافيا وإليكترونيا حين بدأ الإهمال التنازلي من الدولة للمشرع العملاق ، ثم حدث التوقف التام لمشروع الجزيرة العريق ، وإمتداد المناقل الذي أسسه الفريق إبراهيم عبود إبان فترة حكمه العسكري البحت للسودان للفترة ( 1958- 1964 م ) وقد كانت فكرة إنشاء إمتداد المناقل علي غرار الجزيرة ( مليون فدان ) هي من بنات أفكار الراحل المهندس ميرغني حمزة وزير الأشغال في فترة حكم رئيس الوزرء عبدالله خليل التي سبقت حكم عبود وخلفت حكم الأزهري بعد الإستقلال . نعود هنا للكتابة في هذا الشأن تارة أخري لأننا قد لاحظنا كثرة التصريحات من الحكومة السابقة بالخرطوم عن أهمية إهتمام الدولة بالزراعة وعن ضرورة العودة العجلي لها ، أو ما أطلق عليها بالنهضة الزراعية .. وذلك لإيماننا القوي جداً وربما لإيمان معظم المسؤولين بالدولة بأن الثروة النفطية وأنشطة التعدين للذهب الحالية أو القادمة لن تكون بديلاً للزراعة ، خاصة وهي مهددة بالنضوب ، وليست مثل بترول السواحل الخليجية التي لا تنضب علي عجل ، فالزراعة هي الأبقي ، بل هي الداعمة للوطن ولتطوره حتي تدخل بلادنا مجال الميكنة الزراعية بالكامل والذي يجلب الإكتفاء في كل شيء .. وحتي لاتصاب بلادنا بمرض هولندا الشهير حين أهملت الدولة الزراعة عند ظهور النفط لديهم في هولندا ، فإذا بها تستورد الغذاء والكساء بأكثر من عائدات النفط ، فأصابها الفقر والحاجة ، فعادت بسرعة البرق إلي الزراعة المتطورة التي يصابحها تطبيقات الحزم التقنية وتوظيف الميكنة الزراعية في كافة مراحل الزراعة ، وبالتالي أصبح الناتج الزراعي والحيواني الآن يدخل لهولندا عائدات سنوية تصل إلي ثلاثمائة مليار دولار في السنة ، برغم أن مساحة هولندا لا تتجاوز نصف مساحة ولاية الجزيرة … فتأمل !!!!
وهي ذات التطبيقات التي تضمنتها الخطة الخمسية في السنة الأولي لحكم الرئيس جعفر نميري ورفاقه حين طاف الخبراء الروس كل مناطق السودان لإنشاء ما يناسب كل منطقة من مؤسسات تصنيع ، وإدخال الميكنة بالجزيرة ، ولكن الإختلاف السياسي الذي نشب سريعاً بين النظام المايوي والشيوعيين السودانيين وما تبع ذلك من حركة إنقلاب ، جعل الرئيس النميري يدير ظهره للتعاون الإقتصادي مع منظومة دول المعسكر الإشتراكي كلها بقيادة الإتحاد السوفييتي السابق ، ما أدي إلي خروج الفكرة وأصحابها من السودان وإلي غير رجعة ، فتوقفت الخطة الخمسية السودانية التي حددت بالأعوام ( 1970 — 1975م ) وقد كانت تتضمن ميكنة زراعة القطن بمشروع الجزيرة في كامل مراحل زراعته حتي مرحلة جني القطن وحلجه وتجديد المحالج الحالية بأخري حديثة فضلا علي إقامة مصانع للسماد ومشتقات لتزويد المشروع بالمدخلات الهامة للعملية الزراعية.
وما يحفزنا أكثر علي طرق هذا الشأن الخاص بمشروع الجزيرة بعد أن تناول أمره العاملون بالمشروع وأهل الصحافة كثيرا هو أننا ننتمي جغرافياً وجذوراً لكل مناطق الزراعة المروية رياً إنسيابيا منتظماً منذ قديم الزمان ، سواء في منطقة الزيداب حيث موطن الآباء والأجداد ، وقد شهد الزيداب ميلاد الوالد الخليفة علي الباشا ونشأته الأولي وعمله بالشركة الزراعية هناك منذ العام 1904م ، ثم إنتقاله مع إدارة الشركة الإنجليزية لزراعة القطن بالجزيرة في الربع الأول من القرن العشرين ( 1907م ) وهو في فورة الشباب الباكر مع آخرين ( حاج بابكر احمد – حاج أحمد عواض صيام ) أتوا أيضا من الزيداب التي تعتبر بمثابة القلب لديار الجعليين ، حيث نشأنا وترعرعنا في تلك البلدة الجميلة ( بركات ) والتي تمثل الرئاسة للمشروع .، حين كان العمل عبارة عن تجارب أولية لزراعة القطن بمنطقة طيبة الشيخ عبدالباقي ثم في ام سنط ( طلمبات الري ) حتي منطقة البيارة بالقرب من ( الدسيس )و إستمرت لعدة سنوات في التجريب وفي إبتكار وسائل للري من النيل الأزرق قبل إنشاء خزان سنار الحالي الذي تأتي منه الترعة الرئيسية ( الميجر ) التي تسقي الجزيرة المروية منذ العام 1925م ، وسوف نتطرق إلي فكرة إنشاء الخزان في حلقات قادمة .
نواصل ؛؛؛؛؛؛؛؛
bashco1950@gmail.com