كل الشواهد والمؤشرات المرسلة من مراكز حركتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية السودانية وأطرافها ومنذ وقت طويل تدل وتدلل على أن وعياً مأساوياً ما نحمله، ويتغذى منا يعيق معرفة التاريخ، وما تحت سطوره وعلاقاته المشتبكة، ورواياته الخفية.
ولكن ما يزيد على ذلك كون أن ذلك الوعي بات يزداد تشكلاً، ومع مرور الأيام كوعي عائق لذات عجلات الحياة بتجميدها وتعطيلها، وجعلها حياة رتيبة ومتقهقرة تمضي إلى موات، ومن ثم إلى حرب بدلاً عن المضي أماماً والتقدم.
فحياتنا ومنذ قرون تكاد لا تبعث فتوحات حضارية وتطورات جمعية راسية ونوعية، بقدر ما تسجل حزمة من التبعيات المتسلسلة ما قبل الاستقلال وما بعده. بل يمكن وصف أن ما جرى ويجري قد تم على أداءات وتصميمات عقلية واحدة حكمت عملها منظومة من المفاهيم المشتركة غير المؤيدة لتنمية التفكير والعمل المنتج المحسن لجودة الحياة.
وطبقاً للمائة عام الأخيرة، فإن قيادة أمر المجتمعات وتشكيل ثقافاتها المدنية قد اطلعت به طبقة وسطى من كبار وصغار الأفندية والحرفيين والعسكريين، فكانت ذات سهم في التبعية لتنتج تجارب شتى فشلت في صياغة مشروع وطني مستقر ومتجاوز.
فقد اتجهت وطارت طلائع وعى المتعلمين او الخريجين شمالاً إلى مصر ورأوا في تجربتها السياسية والأدبية مثالاً يجدر الاقتداء به، فأعادوا إنتاجه سودانياً. ولا ضير أن تتأثر تجارب البلدان بعضها ببعض، ولا مندوحة من التأثر الإيجابي، ولكن فالطبقة الهشة وباعتبارها الابنة المدللة للدولة المصنوعة كولونياليا كانت قد ألفت ورعت التناقضات والثنائيات، وربت في عقول ناشطيها نرجسية، وغلوا في تزكية الذات والفردانية التي شجعتها نظم المنافسة المدرسية على التفوق الفردي، والفوز بالوظيفة الحكومية (الميري)؛ مما أدى إلى فصلهم عن مهام المساهمة أحياناً في بناء الوعى بالواقع الاجتماعي، وتعدد نماذجه وتنوعها، واعتبار ان كل ما هو خارج المركز الجغرافي هامشاً لا قيمة لدراسته وتوقعات تطوره، مما حدا ببعض المثقفين ككامل محجوب للدعوة للهجرة الريفية، واعتماد صيغة انطلاق الثورة من الأرياف كصيغة من صيغ التمرد وسياقاته على العقلية الثورية الاشتراكية المركزية.
ويمكن وصف أن في عدم تبني المشاريع الوطنية الواقعية وقصور نفاذ التفكير السياسي لمتطلبات التنمية الإدارية والتعليمية (من حيث النوع واتساق المحتوى التعليمي التطبيقي حسب الاقليم والمنطقة) قد أعاق التجربة وضربها في مقتل. فثمة أسئلة تنهض هنا على شاكلة لماذا لم تقم كلية الزراعة بجامعة الخرطوم في الجزيرة مثلاً حيث أكبر مشروع اقتصادي بالبلاد آنذاك؟ ولماذا لم تؤسس كلية الجيولوجيا بالنيل الأزرق، أو ولاية نهر النيل أو دارفور، حيث الثروات المعدنية والموارد الطبيعية المعدنية.
أكثر من ذلك فإن ما سمي بالتعليم الفني كان ما يستحق التوسعة والتوسيع وبناء القدرات في كافة مدن السودان، بدلا عن كلية يتيمة تقبع بالعاصمة الخرطوم؟ فالتعليم الذي خطط له وصنعت مخرجاته السياسات التعليمية ثبت انه وفي جملة محتوياته قد دفع بالمتعلم للانفصال عن بيئته بدلاً عن الاتصال بها، وبأسئلة التطور التطبيقية، وخدمة واقع الحياة الاجتماعية على نظم ونماذج دقيقة من التنمية .
فمئات الآلاف من الخريجين ومنذ نشأة التعليم لم تتمكن وحتى الآن من تحويل معارفهم العلمية إلى أسلوب تنموي علمي يمكن بدوره من النهوض بأبنية الوعي للمجتمعات، ويؤثر تنمويا فيها. بل إن حقيقة ما حدث هو أن المجتمعات في أريفتها وقعودها ونبذ مؤسساتها الاجتماعية الأهلية التقليدية، ولكي تحافظ على نمط العيش وما ترتبط به من مصالح هي من أثرت في سلاسل المتعلمين عبر السنين، فجعلت من تعليمهم تعليماً مظهرياً يشغل الوظائف، ويطلب ود التفاخر بالشهادات أكثر من خدمته لقضايا ومشكلات الواقع المعقد.
والمتعلم وإن تجلت خدماته وبذلت في حقول مثل التعليم والصحة والهندسة ومجالات أخرى، إلا أن كل ذلك جاء بما يشبه المهام الوظيفية الواجبة المقررة بتوفر متواضع لمخرجات التفكير الابتكاري والتفكير التحويلي التطبيقي الداعم لتنمية الواقع المحيط. غير أن مأساوية الوعى لا تقف هنا بل تذهب إلى عادة الهدم المنظم والمتواتر لإنجازات متواضعة كانوا قد حققوها في الخدمة المدنية، وضروب العمل الحكومي والخاص فباتوا يقتاتون مما صنعوه قبلاً، واعتبروه مجداً وفتوحات خارقة. وإذا ما كان هناك استثناء من بين كل ذلك فالحياة الشعرية والفنية الموسيقية والغنائية والأدبية وكل متعلقات الإنتاج الأدبي والفني تكاد تصبح هي من أفضل ما قدمه السودانيون خلال المائة عام المنصرمة من داخل منظومة الطبقة الوسطى المركزية، مع تطبيقات سياسية متنوعة عبر أحزاب سياسية وعسكرية فشلت إلى الآن في إقامة الحكم الوطني التنموي الديمقراطي المشتغل بفكرة تأسيس ورعاية سياسات النهضة التنموية.
غير أن الأقرب والمباشر الذي يساعد في قراءة الوعي المأساوي يتمثل في ارتباط وعى المتعلم بالفضاء التقليدي الديني والأدبي والمدرسي الذي يخشى في جوهر تراكيبه نقد ما كان، والعمل على إعادة تخليقه، وبحيث ساهم في الفرجة على الواقع واكتفى بالعمل على هوامش مادته بدلاً عن عمله بأفكار التنمية ومهامها العاجلة.
وعلى تراكم تأجيل المهام لبناء سياسات وطنية ذكية وضالعة في التنمية وأهدافها تفاقمت المأساة الوجودية للسودان والسودانيين. ويظل سؤال: لماذا حدث ويحدث كل ذلك؟ سؤالاً مقلقا لمضاجع العديدين ممن يشتغلون بموضوعات التفكير النقدي ولهم في تفسيره أطروحات وآراء وإن كانت لا تزال تواجه المقاومة الشرسة من حراس فكرة ليس بالإمكان أبدع مما كان.
أقرب التفسيرات الغالبة لما يجري تتصل برعاية وتبني وتأييد وعي مأساوي بالحياة نفسها التي يحسبها العقل الجمعي المتواطئ مع تراثه الصوفي، وباعتبار عدائه للتنمية أنها دار خراب وليس عماراً وتنمية، وإن من يجنح الى عمار الدنيا يخرب آخرته. والمفهوم الصوفي هذا للدنيا يجردها من خصائص المكان والزمان والوطن والمواطنة وهو ما أفلحت بنشره قوافل وجحافل المهاجرين من مؤسسي الطرق الصوفية، وأودعوا مفاهيمها في العقول، فأصبحت التغذية المعلوماتية، ومهما بلغت شأوًا عظيما من الفائدة التطبيقية والنظرية ليست ذات ترحيب وتزكية من العقل التقليدي الداعي للزهد والتطهر من (ادران) وشروط وعلاقات التطور.
هذا العقل الزاهد المضرب بطبيعة الحال عن الدنيا في جوهرها لا ينفي إعجابه بالتقليد للحداثة ومنتجاتها، ولكن على نموذج الحصول على الفائدة دون أدنى مسؤولية من متاعب وشروط صناعتها. الأجيال الجديدة ليست استثناء من ذلك ولكنها ومن شدة فاقة المهم التاريخ خرجت تبحث عن نفسها بنحو مصادم مع المؤسسة السياسية، ولا تزال تزاول تلك المهمة النقدية المقدسة بكلفة الدماء وبذل الأرواح. لم لا ؟فالثقافة والثقافة السياسية هى قاتلة أحلام السودانيين بمؤسسات شتى، وبنظم تفكير متشابهة ترى في إدارة الدولة مطلباً للتملك دونه خرط القتاد.
والسياسة بوصفها الراعي الرسمي والحصري في إنتاج الوعي المأساوي تصبح أولى المستهدفات بتغيير ثقافتها وإعادة بناء استراتيجيات سياساتها على نحو يلهم بصناعة واقع حضاري وثقافي مختلف بدلاً عن مشاغبة حياة السودانيين وتجريحها بدون حساسية ثقافية ووطنية جعلت من السودان مضرباً للمثل في وصف الدولة المريضة والبلد التعيس بإدارة حكامه ومجتمعه السياسي.
الخروج لن يكتب إلا بتغيير العقل العام ومنه السياسي والثقافي والاقتصادي بدمقرطة الوعي أولاً وإلغاء خاصية تجاذباته وخصوماته حول حقائق التطور باتباع طريق التفكير العلمي وترك القرار للعقل العلمي السياسي بدلاً عن العقل المضاد للعلم ونتائجه التي يعمل وفقها العالم وتؤيدها مجريات التطور.
الأحزاب في ذلك مطالبة بخلق الثورة بداخلها أولاً، وكذلك المنظمات المدنية وترفيع التفكير والثقافة السياسية المؤيدة للعلم والمؤيدة بدعمه غير المحدود لها. حتى ذلك ستظل مقارعة الفراغ ودوران طواحين الهواء والتكلس ظواهر غالبة ومانعة لانطلاق عجلة التطور العلمي وترك القرار للعقل العلمي السياسي بدلاً عن العقل المضاد للعلم ونتائجه التي يعمل وفقها العالم وتؤيدها مجريات التطور.
الأحزاب في ذلك مطالبة بخلق الثورة بداخلها أولاً وكذلك المنظمات المدنية، وترفيع التفكير والثقافة السياسية المؤيدة للعلم والمؤيدة بدعمه غير المحدود لها. حتى ذلك ستظل مقارعة الفراغ ودوران طواحين الهواء والتكلس ظواهر غالبة ومانعة لانطلاق عجلة التطور.
wagdik@yahoo.com