FROM FAKI to DUKTOR: Changing attitudes towards tradition among Sudanese rural intellectuals
Albrecht Hofheinz البريشت هوفهاينز
تقديم: هذا هو الجزء الثاني والأخير من ترجمة لغالب أجزاء ورقة قدمها الدكتور البريشت هوفهاينز إلى المؤتمر الدولي الثاني للدراسات السودانية تحت عنوان “السودان: البيئة والسكان” الذي عُقد في درم بين يومي 11 – 18 أبريل 1991م. ونُشِرَتْ هذه الورقة في الجزء الثالث من أوراق المؤتمر (صفحات 96 – 106).
يعمل الأكاديمي الألماني البريشت هوفهاينز (الذي سبق لنا ترجمة مقال له بعنوان “أبناء الإمام الغائب: نسب عائلة الميرغني” أستاذا مشاركا في قسم الدراسات الثقافية واللغات الشرقية بجامعة أوسلو بالنرويج. وكان قد حصل على درجة الدكتوراه عام 1996م بأطروحة عن المجاذيب عنوانها: “التاريخ الاجتماعي والديني لحركة إصلاحية إسلامية في مرحلة باكرة من تاريخ السودان الحديث”، وعمل بالسودان ودول نامية أخرى في خدمة “مؤسسة التنمية الألمانية” والصليب الأحمر ومفوضية حقوق الإنسان. أنظر https://shorturl.at/mrU49
المترجم
- مجذوب النقر
بعد حوالي نصف جيل (ومقدار الجيل 20 – 30 سنة. المترجم) ولد مجذوب النقر (1933 – 1987م). وأتت سنوات نشأته وتكوينه عقب الحرب العالمية الثانية مباشرة، وهي الفترة التي ازداد فيها تسييس (politicization) النشاط الطلابي الذي كان يهدف لتأكيد الذات الوطنية / القومية وتحقيق الاستقلال. وكان ذلك التسييس قد جلب إلى الواجهة أحزاباً سياسية بعيدة كل البعد عن الطرق (الصوفية)، مثل الإخوان المسلمين، والشيوعيين (بصورة أبرز). وتأثر مجذوب النقر بذلك التسييس بشكل كبير. فقد كان حتى في سنوات طفولته الباكرة، شديد التدين، مقارنة مع أقرانه. وكان زملاؤه في مدرسة بربر الوسطى يستشيرونه في مختلف الأمور الدينية التي تُشْكِلُ عليهم. غير أنه غَيَّرَ اتجاهه عند التحاقه بمدرسة وادي سيدنا الثانوية وأنضم للشيوعيين، وصار من الناشطين في حزبهم، الأمر الذي أفضى لطرده من تلك المدرسة عام 1949م. ولجأ مجذوب النقر إلى مصر لفترة، واصل في غضونها نشاطه السياسي، وكان شديد التأثر بالماركسي المصري البارز محمد أمين العالم. وكان مجذوب في نظر رفاقه حُجَّة في النظرية الماركسية، الأمر الذي دعاهم لإطلاق لقب “الجاهز” عليه، وذلك لسرعة وحدة ردوده التي كان يلقيها في ظُرُف وكياسة.
وفي عام 1955م طردته السلطات المصرية من أرضها فآب للسودان. ورفض مجذوب في البدء زيارة عائلته. غير أنه أذعن أخيراً بعد أن أفلح بعضهم في إقناعه بزيارتهم. وقابل محجوب أحد أقربائه (عمه أو خاله uncle) الذي كان قد اشتهر بـ “البركة”، وترك ذلك الرجل أثراً بالغاً في محجوب، فقرر البقاء معه، وانسحب من الحياة العامة لحياة تميزت بالزهد والصلاة والصيام وقراءة كتب الصوفية؛ بل صار ينام ليله في قبة شيخ المجاذيب. وأزعجت مغالاته في الزهد أفراد عائلته، فنصحوه بإكمال دراسته والحصول على وظيفة عادية. غير أن نصحهم له لم يجد نفعاً. ودأب بعض الشيوعيين من رفاقه القدامى على زيارته ومناقشة الكثير من الأمور معه، إلا أنهم أخفقوا في إعادته لحظيرة الحزب، على الرغم من أنه ظل يقر – لفترة زمنية معينة – بأن تحليلهم الاقتصادي صحيح، وهو مؤمن به، ولكنه يرفض الالحاد.
وفي عام 1958م التقى مجذوب النقر بزعيمه الروحي الشيخ ماهر. وكان الشيخ ماهر (وهو شيخ سابق في الطريقة الضيفية) قد نبذ مفهوم “السلسلة” عند أهل التصوف (1) – ولم يعد يعترف بغير الكتاب والسنة. وعقب ذلك اللقاء اعتدلت أحوال مجذوب ونال شيئا من الاستقرار، خاصةً بعد أن التحق بمدرسة ثانوية مدرساً للغة الإنجليزية والجغرافيا. وصار بالتدريج قائداً محليا لمجموعة من الرجال الذين يتشاركون معه في الأفكار والآراء، وكانوا جميعا من أتباع الشيخ ماهر، ولهم اتجاهات ومواقف “نخبوية elitist” معينة. وكانوا ينظمون لقاءات أسبوعية تجمعهم في مكان واحد للصلاة وتلاوة الأدعية والأذكار. وكانوا في تلك الأيام يعدون مجذوب النقر هو الخليفة الحقيقي للشيخ المجذوب.
ومع مرور الأيام اعترف الكثيرون من مثقفي مدينة الدامر وكبرائها بذلك “القوميسار commissar”، الذي تحول إلى شيخ صوفي. وفي بدايات السبعينيات كان الباحثون والصحفيون يقدمون عليه عندما يودون البحث في شأن التاريخ المحلي للمنطقة. فعلى سبيل المثال كانت إحدى رسائل الماجستير التي قُدمت عام 1977م تقوم أساساً على إفادات قدمها مجذوب النقر للباحث (2)، وكان طلاب الجامعات والصحافيين (من أتباع التصوف) يتقاطرون عليه لإجراء مقابلات معه (3)، وكان يقوم بنشر أفكاره في إذاعة محلية (4). وعندما كنت أجري الجزء الحقلي من دراستي في الدامر، لم أصادف أحدا في المدينة لا يقر بعلو كعب مجذوب النقر في كل ما يخص التاريخ. لقد كان مجذوب النقر ينظر إلى تاريخ الدامر كله على أنه تاريخ غرس وترسيخ ونشر للعلم، وكان يراها مركزاً للضوء في الظلام الأفريقي. وخلافاً لآراء المتصوفين الآخرين، كان المجاذيب ينادون بما يسمونه “التصوف العلمي” (5). وقاد ذلك “المنهج العلمي” أصحاب ذلك التصوف لتنظيم مدارسهم على ثلاثة مستويات، لكل واحد منها منهج معياري، وامتحانات نهائية، وشهادات تخرج. وأحسب أن الجوانب المتشابهة في ذلك المنهج المعياري للنظام التعليمي الحديث الذي فرضت أسسه الدولة ليس من قبيل الصدفة – فالتعليم التقليدي لم يكن منظماً تماماً كما يراه مجذوب النقر.
ويشابه مجذوب النقر الشاعر محمد المهدي مجذوب في الكثير من الصفات. فقد كان كلاهما قد عانى بوعي وبشكل أكثر حدة ربما من معاصريهما وذلك بسبب التوتر والنزاع والتناقض بين عالمين مختلفين تمام الاختلاف، وحملا عبء التفكير والتأمل في ذلك التوتر والنزاع والتناقض. ولكن بينما واصل الشاعر في التوق إلى الدامر “القديمة المرحة”، نقل مجذوب النقر مسقط رأسه إلى العالم الحديث من خلال إعادة صياغة تاريخها بتبني أنماط تذكرنا بوضوح بالأمثلة الحديثة. ومن المثير للاهتمام للغاية أن نرى (ومن المهم أيضاً أن يدرك الباحث)، كيف بدأت هذه النسخة “الحديثة” من التاريخ (6) في هذا الأثناء تحل محل التقليد “الحي” للتاريخ عند الجيل الأصغر سناً – من خلال وسائل الإعلام والتعليم التي تسيطر عليها الدولة – التقاليد “الحية” للعائلة التي كانت تنتقل قديماً عن طريق الحكايات التي ترويها الجدات (7).
- دكتور عثمان عبد الله (1935 – ؟)
ختاماً، أود أن أتناول باختصار بعضاً من سيرة رجل كان قد تولى في السبعينيات مسؤولية تنشيط عملية إقامة الاحتفال بالذكرى السنوية للشيخ المجذوب. وقد كانت “حولية” الشيخ قد شهدت العديد من حالات الذيوع والخمود عبر سنوات القرن. كانت العلة في ذلك هي، جزئياً، فقدان الرغبة في الاحتفال، وجزئياً بسبب التنافس بين مجموعتين من عائلة المجاذيب كانت واحدة منهما تنتظم حول الجامع القديم، بينما تنتظم الأخرى حول جامع الحكومة. وذات مرة قدم للدامر طبيب أطفال حاذق ومشهور من مدينة ود مدني، كانت له صلات بعيدة بالمجاذيب. وكان ذلك الدكتور يهدف لحض كبراء المجاذيب على لم شملهم وأن يعملوا سوياً في إقامة الحولية في قبة الشيخ المجذوب. وأنفق في سبيل ذلك الهدف قدراً كبيراً من المال لتوسيع المباني حول القبة ولمقابلة تكاليف إقامة الحولية واستضافة المريدين القادمين للدامر من مختلف المناطق.
وكانت من الأسباب التي قيل إنها دعت دكتور عثمان لتلك المبادرة هي أن الشيخ المجذوب جاء لدكتور عثمان في المنام وهو في لندن لإجراء عملية جراحية. وكان ظهوره للدكتور في المنام سبباً في شفائه من الألم، الأمر الذي أَغْنَاه عن إجراء العملية الجراحية. وقيل أيضاً أن الشيخ المجذوب طلب من الدكتور عثمان في الحلم، بعد أن أبَلَّ من مرضه، أن يسافر إلى الدامر ليعمل على إصلاح قبته التي تهدمت بعض أجزائها بسبب الإهمال. ولبَّى الدكتور الطلب، وأفلح – بمساعدة من بعض أفراد العائلة المؤثرين (من ذوي اليسار والغنى) في الاحتفال بالذكرى السنوية للشيخ المجذوب وإقامة الحولية في القبة. وبينما كان قسم “قديم” من رجال المجاذيب يعدون ما قام به الدكتور مجرد فعل أراد به “المنافسة”، نجد أن الاحتفال بالذكرى السنوية للشيخ المجذوب غدا اليوم (أي في زمن كتابة المقال. المترجم) هو أهم احتفال سنوي يقام بالمدينة، وتقدم عليه أعداد كبيرة من المريدين من شمال السودان وشرقه.
ودأب دكتور عثمان على الإشارة لرؤيته للشيخ أو للنبي (صلى الله عليه وسلم)، وكان يحكي دوما عن “كرامات” كان شاهداً على حدوثها؛ بل كان يفسر أحداثاً عادية مثل حجز تذكرة قطار بحسبانه “تدخلا حميدا” من شيخه (8). ومثل ذلك الموقف ملفت للنظر من شخص أصاب في تخصصه المهم في العالم “الحديث” نجاحاً كبيراً، خاصةً وهو من الذين تلقوا العلم في الخارج، وكان عضوا في البرلمان، وكان يرغب في أن يشيد مستشفاه الخاص. لقد تبنى الكثير من المهنيين الآخرين الإسلام الأصولي. غير أن عثمان، خلافاً لأولئك المهنيين، مال – وبشدة مبالغ فيها نوعاً ما – إلى الصوفية، مركزاً على جوانب الإعجاز الديني فيها (9). وكان دكتور عثمان يدعم هذا التصوف من خلال أعمال مثل إحياء قيام الحولية، مع إضفاء لمسة عصرية وجاذبة عليها، مثل تركيب سلاسل من المصابيح الكهربائية على الجدار المحيط بقبة الشيخ. وصار آخرون يستخدمون طرقاً (حديثة) أبعد من ذلك. فقد كان أتباع الطريقة البرهانية مثلاً يحتفلون بمولد النبي (صلى الله عليه وسلم) في الدامر بعرض فيديوهات سُجِّلَتْ في مركزهم بالخرطوم، ويقومون بأداء الأذكار والإنشاد (سماها الكاتب “الرقص”. المترجم) بصورة بالغة الإثارة تحت الأنوار الكاشفة في خيمتهم المعطرة بالبخور. وكان بعض شبان المدينة يستمتعون بما يشاهدونه أمامهم، ويطلق بعضهم عليه “ديسكو البرهانية”. وكان دكتور عثمان يقوم بزيارة بعض كبار السن بعد العصر ويشاركهم شرب الشاي وتناول “الكريم كراميل”، ويسرد عليهم بعضاً من كرامات شيخه. وكان مستمعوه ينصتون لما يقول بمزيج من الرَهبَة والاحترام (awe) والفضول والتسلية والإذعان. لقد كانوا يعلمون أنهم مدينون له بقدر كبير، غير أنهم لا يستطيعون إخفاء حقيقة أنه، في الأساس، ليس منهم، بل هو شخص غريب أو دخيل outsider عليهم. وكان مجاذيب بالدامر يرحبون دوماً بالأموال التي تدفقت عليهم منه. غير أن بعضهم ربما شعر بشيء من الغيرة من أن شخصاً من غير مدينتهم هو ما أخذ الآن بزمام المبادرة في تمثيل طريقتهم والدفاع عنها.
تُظْهَرُ جهود دكتور عثمان في مقاومة هجمة الأصوليين من خلال التأكيد على الجانب الصوفي من تراثه وتقاليده أن في الصوفية (وفي غيرها من مجالات العمل الإسلامي) غالباً ما يكون الشباب المهنيون الحضريون هم من يأخذون زمام المبادرة في التنظيم والدعاية (10)
الخلاصة
اعتمدت العائلات الدينية الريفية في استجابتها لتحديات العالم الحديث على استراتيجيات شَتَّى. وسرعان ما أدركت (قيادات) تلك العائلات أن التراجع أمام العالم الحديث أو رفضه تماما هو طريق مسدود؛ فشرعت في الصراع مع “العدو/ الخصم” مستخدمة نفس أسلحته، وذلك لما يمثله في نظرهم من تهديد خطير. لقد استوعبت واستفادت تلك العائلات من الكثير من أساليب خصمهم وقلدوها وجعلوا من خريجي المدارس الحديثة متحدثين باسمهم. وكانت نتيجة ذلك التفاعل بين “حقلين ذوَيْ دلالتين sematic fields” متأثرة بوضوح بالتوزيع غير المتساوي للسلطة المادية. غير أن هذا مجرد عامل واحد فحسب.
إن خيال الأفراد الذين يعيشون في مواقف معينة جامدة يعمل كمنشور/ مَوشُور (prism) يدمج ويجمع التأثيرات المختلفة ويعطيها اتجاهاً وتوجهاً جديداً. ولا تزال عملية التغيير هذه ماضية بصورة مستمرة.
إحالات مرجعية
(1). الطريقة الضيفية (الخلوتية) هي طريقة صوفية في مصر أسسها الشيخ إسماعيل ضيف. وبحسب ما ورد في موسوعة الويكيبديا فالسلسلة في التصوف هي وسيلة نسب لوصف النسب الروحية المستمرة التي تربط بين الفرق الصوفية عبر شيوخها في سلالة تتصل بالنبي محمد وصحبه. هي بمثابة سلسلة نسب روحية https://rb.gy/7y24c
(2). ذكر الكاتب في الحاشية أن عوض مصطفى الكرسني قدم لقسم العلوم السياسية بجامعة الخرطوم في عام 1977م رسالة ماجستير باللغة الإنجليزية عنوانها “الطريقة المجذوبية: عقيدتها وتنظيمها وسياستها”. ونشرت لاحقا نسخة مختصرة من تلك الرسالة في كتاب عن “المجذوبية والمكاشفية” حرره المؤرخ مارتن دالي، وصدر عام 1985م عن كلية الدراسات العليا بجامعة الخرطوم.
(3) أشار الكاتب إلى فصل في كتاب “القوم” صدر عام 1987م، وفيه فصل عن “خلوة المجاذيب” بقلم عثمان أحمد العوض، كانت قد صدرت أولاً عام 1976م عن كلية التربية بجامعة الخرطوم.
(4) تحدث مجذوب النقر عن التاريخ في مقابلة مع الإذاعة المحلية في أتبرا في يوم 17 نوفمبر 1986م.
(5) ذكر الكاتب في الحاشية أنه يؤثر هنا استخدام كلمتي “تصوف علمي” على “تصوف ثقافي” أو “تصوف المتعلم الخبير”، متأسياً بالتعبير الحديث “التفسير العلمي للقرآن”، وببرنامج “الإسلام والعلم” لمصطفى محمود في التلفاز المصري.
(6). ذهب الكاتب إلى أن مجذوب النقر كان يعرف عن التاريخ أكثر من غيره من سكان الدامر. وكان يجمع التراث الشفهي ويفسره بحسب مفهومه الخاص، بحسب ما نسب من قول لأحمد إبراهيم أبو شوك إلى عبد الرحمن محمد مكي، الذي كان يعمل في المركز الإسلامي بالخرطوم.
(7). قارن الكاتب هذا بما ذكره محمد المهدي مجذوب عن قصص جدته في ديوانه “نار المجاذيب”.
(8). استشهد الكاتب في الحاشية ببعض ما جاء في كتاب لمايكل قيلسنان (M.Gilsenan) عن “الإسلام: الدين والمجتمع في الشرق الأوسط الحديث”، من أن الكثير من الأحداث التي يراها “الآخرون / الغرباء” أحداثاً عادية، قد تُفسر على أنها “كرامات” عند الذي يتوقع دوماً وقوعها.
(9). ورد في الحاشية أن ظاهرة العودة أو اللجوء إلى التقليد الصوفي في مواجهة الموجة الإسلاموية المتصاعدة هو ظاهرة يمكن ملاحظتها أيضاً في أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي. وبين الفريقين “أهل التصوف” و”السلفيين” في مختلف البلدان عداء ملحوظ.
(10). ذكر الكاتب في الحاشية أن المؤرخ أوفاهي أخبره في مراسلة شخصية معه عن تطور مشابه في مصر (مثل ما حدث مع الدَّنْدَرَاوِيَّة).
alibadreldin@hotmail.com