يعيش السودان الآن في كنف اخطر ازمة تواجهه منذ ان حقق إستقلاله، يكون أو لا يكون، مهدد في وحدته اليوم أكثر من أي وقت مضى، تتجاذبه الأجندات، وبفعل السياسات الآحادية الإقصائية التي إتبعها نظام المؤتمر الوطني فقد جزءاً عزيزاً من ارضه وشعبه بإنفصال الجنوب وتواصلت الحرب الاهلية في سبع من ولاياته وواجه ازمة اقتصادية عاتية احالت حياة السودانيين إلى جحيم المعاناة اليومية وزادت حلقة الفقر إتساعاً وواجه حصاراً دولياً عاتباً زايد ازمة الاقتصاد عمقاً، وضعت ثورة ديسمبر المجيدة حداً لهذه السياسات وبدأت حكومة الثورة بالفعل في معالجة هذه الأوضاع، ولكن، إتبع فلول النظام السابق كل العراقيل والمتاريس وإستمرار تخريب مؤسسات الدولة، ونجحت في قطع الطريق أمام الإنتقال الديمقراطي بإنقلاب 25 إكتوبر 2021، وعندما فشل الإنقلاب وبرز الصراع بين مكوناته المدنية والعسكرية، لجأ فلول النظام المباد الي إشعال حرب الخامس عشر من أبريل، التي لم تدمر البنية التحتية ومؤسسات الدولة فحسب وإنما مست النسيج الإجتماعي والرابطة القومية والوحدة الوطنية، فالقتل وحمامات الدم والتشريد والانتهاكات الجسيمة التي نتجت عن الحرب غير مسبوقة في السودان والمنطقة، وقد أدمت الضمير الانساني العالمي. وقد خلقت واقعاً جديداً أكثر تعقيداً وأكبر تحدياً ينذر بتفكك معالم كل الدولة السودانية، وخلفت واقعاً مأساوياً دموياً وكارثة إنسانية، وبلغت حالة الإنقسام مبلغاً خطيراً. وليس غريباً تحت هذه الظروف ان يلتئم شمل قوى الثورة والتحول الديمقراطي في إجتماع يفتح الطريق لبناء بجبهة مدنية ديمقراطية واسعة كخطوة لازمة وضرورية لإيجاد حل شامل لهذه الازمة العاتبة قبل ان تقود إلى انهيار الوطن بأكمله وتشظيه، فلا خلاص من هذه الكارثة الا ببناء عقد إحتماعي جديد وإعادة التأسيس والبناء وفق أسس جديدة قائمة على العدالة والمساواة والحرية والديمقراطية وسيادة حكم القانون والتبادل السلمي للسلطة، تبنى على مكاسب الحركة الوطنية وتراكم الحراك الديمقراطي، وتستوعب درس الحرب القاسي، وتستشعر المسئولية الوطنية وفق نهج قومي أساسه تقديم كل التنازلات اللازمة وإعلاء الانتماء للسودان الوطن الواحد على أي إعتبارات أخرى، والتواضع على رؤية موحدة من شأنها إيقاف الحرب، ومجابهة الكارثة الانسانية، وتستجيب لمطالب الشعب المشروعة في الاستقرار والأمن والحكم المدني الديمقراطي، وتستقطب الدعم الإقليمي والدولي لإعادة إعمار ما دمرته الحرب.
هذا الاجتماع الذي نتحدث عنه هو احد الاجتهادات والجهود التي إنطلقت منذ منتصف الفترة الانتقالية تحت مسعى توسيع قاعدة الانتقال، وتبلورت الرؤى حولها بشكل أوضح عقب إنقلاب 25 إكتوبر 2021، وتجددت الجهود بعد اندلاع حرب 15 أبريل 2023، حيث تم الاتفاق على البيان التأسيسي للجبهة المدنية لوقف الحرب وإعادة الديمقراطية في 27 ابريل 2023، وذلك انطلاقا من ان المدخل الصحيح لإنهاء الحرب وتحقيق السلام والتحول الديمقراطي يبدأ ببناء جبهة مدنية تضم قوى السلام والديمقراطية لكي تضطلع بمسؤليتها الوطنية في هذا المنعطف الخطير من تاريخ السودان.
ولذلك لابد من النظر إلى إجتماع أديس ابابا التحضيري الذي تنطلق فعالياته من 21 اكتوبر وحتى 25 اكتوبر 2023 بأديس أبابا من هذه الخلفية، وان نحلله على اساس انه خطوة في الاتجاه الصحيح للخروج من اخطر ازماتنا الوطنية والتي يتفق الجميع ان المخرج منها لابد ان يستند على ركيزتين: الركيزة الاولى هي إنهاء الحرب وإعلاء راية الحل السلمي بدلاً عن الحل العسكري والركيزة الثانية هي إستعادة التحول المدني الديمقراطي عبر حوار شامل في جو من الحرية والمشاركة يفضي الي إتفاق سياسي تشرف على تنفيذه سلطة إنتقالية تعبر عن إرادة للجميع، ويجب النظر إلى اي مبادرة تطرح لمعالجة هذه الكارثة على اساس هاتين القاعدتين ونبحث في مدى التزام المشروع بها.
نداء الواجب في المرحلة هو وقف إطلاق النار والعدائيات وإنهاء الحرب والعمل على تأسيس الحكم المدني الديمقراطي وفق أسس جديدة لإعادة بناء الدولة السودانية، وذلك عبر إتفاق بين قوى الحرية والسلام والعدالة والديمقراطية على بناء جبهة مدنية ديمقراطية، ومن ثم حوار سوداني سوداني بلا سقوف لكل القوى الوطنية يهدف الي توحيد المسار المدني، تمهيداً للتفاوض مع العسكريين في عملية سياسية تفضي الي إتفاق نهائي لوقف إطلاق النار وبناء جيش مهني قومي واحد والنأي بالجيش عن السياسة.
إن وضوح الرؤية حول بناء الجبهة المدنية من حيث المبادئ والاهداف ومعايير الانتماء والتمثيل والمهام وبرنامج العمل والشكل التنظيمي، هي من أهم أسباب النجاح والاستدامة والتطوير، ومخاطبة جذور الأزمة وأسباب الحرب وتداعياتها والاجابة على الأسئلة الكبرى في إعادة تأسيس المسار المدني مهمة للغاية في حاضر البلاد ومستقبلها ولا تقبل التأجيل، ببساطة لأن العمل من أجل وقف الحرب وتنفيذ شعار “لا للحرب” يجب ان ينطلق من منصة تتجاوز عثرات الماضي وتعبر عن إرادة موحدة ولديها مصلحة في الاستقرار وحقن دماء السودانيين.
تكوين الجبهة المدنية في هذا التوقيت مسألة إستراتيجية، لا تحتمل المزايدة والإبتزاز والصراع، ويجب الاستفادة من تجارب الماضي البعيد والقريب، وإستشعار المسئولية الوطنية التي فرضتها الحرب، لذلك ينبغي أن تقوم عليها أسس وقواعد العمل الجبهوي، والذي يتأسس على تعزيز القواسم المشتركة والرشد السياسي، والحوار العميق والجاد حول القضايا الوطنية، وعلى قبول الآخر، والالتزام بالشفافية والوضوح والمشاركة في إتخاذ القرار، وتوسيع القاعدة السياسية والاجتماعية للجبهة بالانفتاح على كل القوى الوطنية والتقليدية والقوى الشبابية والنسوية والمبدعين وتنظيمات أصحاب العمل وتنظيمات المزارعين والرحل عدا الكيانات المنخرطة عمليا في الحرب والداعية الي إستمرارها وتقويض مساعي التحول الديمقراطي، وبلورة خطة عمل لإقناع دعاة الحرب والعنف والشمولية بجدوى السلام والتحول الديمقراطي، وفي هذا الإتجاه فان أي إفتعال لأي مشاكل في هذا الوقت وبأي حجة سيخدم فلول النظام المباد ودعاة استمرار الحرب مهما كانت المبررات.
القواسم المشتركة بين كافة قوى الثورة والتحول الديمقراطي كثيرة، حيث تتفق هذه القوى علي أن لا جدوى من الحل العسكري وان إنهاء الحرب يتم بالحوار والتفاوض، وعلى أن إعادة تأسيس الدولة الوطنية الديمقراطية وهزيمة مخططات الفلول ودعاة الحرب تتطلب وحدة الارادة وتماسك الخطاب السياسي والاعلامي، وعلى ان تجاوز المرارات والتسامي علي الجراحات يجب أن لا يعني التفريط في مواجهة القضايا الجوهرية بالجدية اللازمة وأهمها التحقيق في الانتهاكات ومحاسبة مجرمي الحرب وتحقيق العدالة وإنصاف الضحايا والاصلاح الامني والعسكري، وعلى ضرورة إصدار قرارات حاسمة وفورية لوقف إطلاق النار وإيصال العون اللازم للمتضررين وإطلاق سراح الأسرى، وعلى أن يكون التفاوض بين طرفي الحرب ليس حول الحلول الجزئية والثنائية وإنما في إطار عملية واحدة وشاملة، وعلى رفض أي إتجاه لتشكيل حكومة طوارئ أو تصريف أعمال، وعلى أن لا شرعية للحرب ولأي طرف من أطرافها.
صحيح، كثير من قوى الثورة والتحول الديمقراطي ورافضي الحرب ليس حضوراً في هذا الاجتماع التحضيري، وعليه، لابد من بذل جهد اكبر وسط هذه القوى لشرح الموقف والتركيز على نقاط الالتقاء وتطويرها بغرض الوصول لصيغة للتوافق السياسي والعمل المشترك وضمان المشاركة في المؤتمر الموسع للجبهة المدنية، فمن الواضح أن القواسم المشتركة التي ذكرتها اعلاه تشكل أرضية خصبة لالتقاء هذه القوى وصياغة رؤية وبرنامج وشكل تنظيمي، فهناك ضرورة لتوسيع الجبهة المدنية وتعزيز نقاط الالتقاء وخلق توافق حول القضايا الجوهرية وتوضيح اليات ووسائل التنفيذ بشكل جماعي بما يعزز بناء الثقة والاعتراف بدور الآخرين، لان الاهداف والغايات التي تننظر الجبهة المدنية كبيرة تتطلب مشاركة واسعة تعبر عن أكبر قاعدة شعبية تدعمها، وتنخرط فيها حسب طبيعة أي مكون في هذه الجبهة المدنية، ومعلوم بالضرورة أدوار الاحزاب والنقابات والمجتمع المدني والقطاعات التقليدية ولجان المقاومة والأكاديميين والإعلاميين. ويمكن ان تتمثل هذه الاهداف الكبرى في: (الضغط على أطراف الحرب بالإنخراط في طاولة التفاوض لوقف إطلاق النار المستدام والحل النهائي، ومجابهة الكارثة الإنسانية بفتح مسارات المساعدات وتسهيل حركة المواطنين وإنسياب الاغاثة والخدمات، وتخفيف تداعيات الحرب الاقتصادية والاجتماعية والحد من الاضرار الجسيمة بتهيئة المناخ لعودة النازحين واللاجئين، والحد من خطاب الكراهية والعنصرية والاستقطاب الاثني والجهوي والقبلي، ونشر ثقافة السلام والتعايش وقبول الاخر وإدارة التنوع، والاسهام في رتق النسيج الاجتماعي، والتصدي لإنتهاكات حقوق الانسان والحريات العامة، بالرصد والمتابعة والمناصرة، والتضامن مع الضحايا والعمل على جبر الضرر والتعويضات، وتبني حوار سوداني سوداني لتوحيد المسار المدني في جمعية وطنية، وتصميم عملية سياسية شاملة تقوم على توحيد المنبر التفاوضي، وتطوير إعلان جدة وتغيير منهجية التفاوض بحيث تخاطب مخاوف الاطراف ومطالب الشعب السوداني وآليات المراقبة والتنفيذ.
قضية اخرى مهمة هي ان الإجتماع التحضيري بجانب مناقشة عملية التحضير للإجتماع (المؤتمر) الموسع للجبهة المدنية، والآليات التنظيمية والقيادة السياسية؛ ينبغي أن يناقش ملامح رؤية سياسية لحل الازمة السودانية الشاملة بصورة تتجاوز حلول التجزئة والثنائية وتعدد المنابر، والتي تفتح باب لمناقشة كافة الجهات لمناقشتها تمهيداً لبحثها في الإجتماع الموسع، لانها في نهاية المطاف ستكون مساهمة قوى الثورة والتحول الديمقراطي في صياغة مشروع وطني جامع يؤسس لعقد اجتماعي جديد بين كل اهل السودان بمختلف اعراقهم وثقافاتهم وولاياتهم ليؤسسوا دولة تسع الجميع وتعلي راية الهوية الاعظم – هوية الانتماء للامة السودانية الواحدة دون إهدار لحقوق الهويات الصغرى وتضمن مشاركة الجميع في القرار الوطني وفي الاقتسام العادل للثروة والسلطة وتاسيس النظام الديمقراطي القائم على العدالة ورد المظالم والمشاركة الجماعية في إدارة الشأن العام والتبادل السلمي للسطلة ليس على اساس ديكتاتورية الاغلبية انما على اساس رعاية حقوق الاقلية واحترام تعددية وتنوع اهل السودان – وهذا هو التحدي الاكبر الذي يواجهنا جميعاً وكلنا مطالبون بالإسهام في وضع مشروع هذا العقد الاجتماعي الجديد وبناء الدولة التي تحقق هذه الغايات، وإذا كانت الإجتماع التحضيري يعبر عن القوى المشاركة فيه فإن تطوير رؤية الجبهة المدنية هي مسئولية جميع قوى الثورة والديمقراطية والسلام، ومن ثم فإن دعم هذه الخطوة مهم للغاية في مشوار إنهاء الحرب ويجب ان تلتقي عندها وتؤسس عليها كل الجهود عبر حوار مفتوحاً يهدف الي تطور وثيقة جامعة تعبر عن مقاصد ثورة ديسمبر المجيدة ومطالب الشعب المشروعة في الحياة والاستقرار والامن والحكم المدني الديمقراطي.