سينما يا عبد المجيد إمام: وكأن الناس شهدوا منه كرامة في ذلك اليوم
(من كتاب كليف تومسون عن ثورة أكتوبر)
ندلف الي دور مولانا عبد المجيد إمام في ثورة أكتوبر 1964 بزيارة بابكر عوض الله، قاضي المحكمة العليا، له، بمنزله الحكومي بصحبة شوقي ملاسي في مساء 22 اكتوبر1964. وكان المرحوم، قاض المحكمة العليا ومسؤول الجهاز القضائي في الخرطوم، في إجازة من العمل وقد خلد الي منزله منقطعاً عن مجريات السياسة. وكان بابكر يريد منه توقيع مذكرة القضاة التي تحتج على تجاوز الحكومة للقانون بمداهمة ندوة جامعة الخرطوم وقتل الطلاب. ووقع عبدالمجيد كقانوني لا سياسي على المذكرة وطلب من بابكر أن يواليه بالمستجدات.
وننتقل الي يوم السبت 24 اكتوبر. وكان المهنيون قاطبة وجمهرة من الشعب قد تجمعت داخل وحول القضائية تنتظر ساعة تحرك موكب يحتج على تجاوزات الحكومة وقتل الطلاب. وكان الأمر كله فطيراً بعد غير أن المعلوم أن ممثلي المهنيين كانوا بقاعة المحكمة العليا يلقون بخطبهم وعرائضهم على الاسماع وكان عبدالمجيد إمام بينهم. ولم تعجبه اللهجة السياسية في الخطب وقال لهم لكم ما شئتم غير أننا ملزمون بعريضة القضاة التي اتجهت إلى طلب التحقيق في تجاوز الحكومة ومعاقبة المتسببين فيه. من الجهة الأخرى كان بابكر عوض الله والمرحوم عابدين اسماعيل، نقيب المحامين، مع المرحوم أبو رنات، رئيس القضاة، ليحصلا على تصديق بالموكب. وكان أبورنات على صلة بالقيادة السياسية يريد أن يستخلص التصريح. كانت الحكومة تريد أن يقتصر الموكب على جماعة قليلة العدد تسلم المذكرة وتمضي الي حال سبيلها. ولكنها من جهة اخري تحوطت للأمر وبعثت بقرشي فارس، ضابط البوليس، على رأس قوة لفض الجمهرة التي طوقت القضائية تهتف بسقوط النظام ولم يأزف الموكب بعد. وساء ذلك عبدالمجيد الذي أراد محاكمة الحكومة علي فعلها لا الهتاف ضدها والاساءة لها. ونبه المحامين الي بؤس فكرة التظاهرة. وخشي المحامون أن ينسحب عبدالمجيد من فرط ضيقه بالهتافات. واعتذروا له أن الهتاف لم يصدر من حملة العريضة بل من العامة. وكان عبدالمجيد يريد لأبي رنات أن يعلم أن المهنيين لا دخل لهم بالتظاهرة لكي لا يختلط عليه ويتوقف عن مسعى طلب الإذن بالموكب. ومضى عبدالمجيد ليلحق بمن كانوا مع أبي رنات. وكانت المشاورات جارية بالتلفون مع اللواء حسن بشير في طرف الحكومة التي تريد تضييق الموكب بالإذن لمندوب فقط كل هيئة مهنية وطرف المهنيين الذين يريدونه موكباً لكل المهنيين.
وبينما كان أمر الموكب بين شد المهنيين وجذب الحكومة بدا البوليس في تفريق الحشود. وأجلا البوليس قسماً من الحشد من أمام القضائية وبرز قرشي فارس بلبس خمسة يطلب من الناس ان يتفرقوا بالحسني. وساد اضطراب. ومضي اليه احمد عبدالحليم، أمين مكتبة جامعة الخرطوم، يستوضحه الأمر فنهره قرشي قائلاً له “أبعد، يالزول أبو فرجية إنته”. وكان أحمد يرتدي روباً جامعياً. وحين رأي قرشي وجه أحمد عرف أنه ابن دفعة من حنتوب. فطلب من أحمد بحق الزمالة ألا يضعه في حرج مع رؤسائه. وانتهي البوليس إلى وضع قيام راقداً وبنادقهم مصوبة تجاه الحشد أمام القضائية. وأطلقوا رصاصات إلى أعلى للتحذير. وأحدث ذلك اضطراباً وتراجع الحشد بغير انتظام إلى داخل القضائية. ثم أطلق البوليس أعيرة تحذير للمرة الثانية. وأبدأ من هنا ترجمة ما جاء في كتاب تومسون:
“سمع عبدالمجيد إمام بطلقات الإنذار الأولى وهو في مكتب رئيس القضاة حيث مكث لمدة نصف ساعة. وهلع الحضور لسماعهم صوت الرصاص. وكانت أصوات بوق البوليس للناس بالتفرق تصل إلى من بالمكتب أيضاً. وبدا المشهد غير معقول لعبد المجيد. فقد كان ومن معه يتفاوضون مع اللواء عروة، وزير الداخلية، حول الموكب بينما بعث اللواء نفسه بالشرطة لفض الموكب بالفعل. وفكر في عاقبة الموقف من جراء تطفل البوليس على مشهد لا يزال تحت التفاوض. فلم يكن أمام الحضور إلا خيارين: إما تفرقوا وفسدت فكرة الموكب والعريضة أو تمترسوا وترتب على ذلك نقص في الأنفس والأرواح. وانقبض عبدالمجيد للخيارين كليهما.
سارع عبدالمجيد تاركاً المكتب من غير أن ينبس ببنت شفة. وهبط السلم مسرعاً حين كانت تنطلق رصاصات التحذير للمرة الثانية. وكان الناس على أدراج القضائية قد تراجعوا مذعورين أيضاً من هذا التحذير المجدد والبنادق مصوبة إلى صدورهم. واستخلص عبدالمجيد بصعوبة طريقة له بين الناس المتعاصرة الذين كانوا قد ارتدوا يلوذون بصالة القضائية. وانضغط بينهم حتى تخارج إلى عتبات القضائية الخارجية وشق طريقه كالسهم بين وفود المهنيين.
وصاح قرشي في عبدالمجيد إمام :”توقف وإلا اطلقت عليك النار” . ولم يتوقف عبدالمجيد. ولم يبق الا هو وفارس على الشارع. وتجمد المشهد كله وخمدت كل حركة سواء ما صدر من عبدالمجيد. وخطا نحو فارس الذي وقف معتدلاً بمسدسه وقد أخرجه من كنانته. وضاقت المسافة بينهما فيما بدا كلحظة للبعض وكدهر لآخرين. كان الهدوء قد أرخي سدوله حتى أن المرء ليصدق أنه لو اخذ نفساً عميقاً لتسبب في إطلاق النار. قال بعض الشهود إنهم رأوا بلا شك فارس يشهر مسدسه في وجه عبدالمجيد. وبات واضحاً للجميع أنه لم يعد ثمة مسافة بين القاضي والضابط وقد تشاهق القاضي الطويل عليه ونظر له في وجهه.
قال عبدالمجيد: “أنا قاض”. كانت لهجته مدروسة وعاقلة. “وتابع :إنني أمرك وقوة الشرطة التي معك لتنصرفوا. إنني سأتحمل كل مسؤولية الموقف “. وصاح فارس بشيء ما. وصوب عبدالمجيد سبابته إلى وجه فارس محذراً: “كرامة! خلي عندك كرامة”. ورد فارس أن الشرطة تلقت أوامرها من وزارة الداخلية وأنهم مأمورون بتفريق الحشد.
قال عبدالمجيد: “ليس هذا ما يعنيني. أنت الذي تعنيني. أنا رئيس الجهاز القضائي لمديرية الخرطوم وتنتهي المسئولية عنك وعن القوة التي معك عند بابي. اذهب في امان الله”.
وأعتدل فارس وحيا عبدالمجيد عسكرياً برشاقة واستدار الي الخلف دور ومضي بعيداً وأمر القوة أن تتبعه. وتباطأ الجمهور في استيعاب ما جرى أمام ناظريه. ولم يفق لدلالة المشهد إلا بعد عودة القاضي إلى المبني ودخوله فيه وانصراف البوليس. وبدا التصفيق ثم دوي ثم دوي. وتقاطرت الهتافات: ” عاش عبدالمجيد إمام، عاش عبدالمجيد إمام”. وسارع الي كورس الهاتفين من كانوا على نوافذ القضائية ثم اتبعهم من كانوا في حديقتها. وكأن الهتاف موجات تتراكض من جماعة الي أخري: “عاش عبدالمجيد إمام، عاش عبدالمجيد إمام”. وكأني بالناس قد شهدوا كرامة ما فأخذ واحدهم ينقل إلى الآخر كلمات عبدالمجيد إمام وتقاسموها مع جيرانهم ثم حلقت في الآفاق.
IbrahimA@missouri.edu