أتقنت الحرب التي تجري رحاها الآن رسم المأساة والمعاناة على وجوه السودانيين بحالات من القلق والإكتئاب والعجز دون إستثناء؛ شباب وكبار السن ونساء واطفال، فقد تعرض السودانيون للضغط النفسي منذ بداية الحرب بضراوة وبصورة غير مباشرة عبر وسائل الحرب النفسية؛ من دعاية واشاعة وغسيل دماغ وتضليل إعلامي، وبصورة مباشرة بالقتل والتشريد والنهب والسلب والتهديد والتجويع والتعذيب والاعتقال والاغتصاب، مما يشير الي أن هذه الحرب كأنها مستهدفة المواطن وليس غيره، فاستخدمت الحرب النفسية – التي تعد أخطر من الحرب العسكرية لأن تأثيرها على الاعصاب والمعنويات والوجدان والسلوك أكبر – في هذه الحرب تكثيف النشر والترويج للأخبار والافكار والإستماتة في إقناع الناس بجدوى الحرب دون الإنتباه الي أهدافها الحقيقية والجهة الخفية (الفلول) التي أشعلتها، وعرض سرديات رغم عدم التماسك ولكن؛ بكثرة التكرار ونسج الأكاذيب إنطلت على الكثيرين؛ فكانت هي السبب الأساسي وراء الإحباط وتحطيم المعنويات والقنوط وزيادة حالة الشك واللا يقين واضطراب ما بعد الصدمة.
كتبتُ بعد أسبوع من حرب الخامس عشر من أبريل مقال “وقف الحرب يبدأ بمحاصرة الخطاب الذي أشعلها!!” كان مدخله (أن الثابت في كل الحروب سيما في العصر الحديث أن الاسلحة الدعائية التي تروج للحرب لا تقل اهمية من الاسلحة القتالية التي تستخدم في ارض المعركة، وتكاد تكون أفتك منها)، وطرحتُ محددات خطاب إعلامي يضع الحرب في سياقها الصحيح ويعزل المروجين لإستمرارها ويضع أولوياته تماسك المجتمع وتقليل مخاطر وخسائر الحرب، ولكن؛ للأسف الحرب مازالت مستمرة في شهرها السابع وقد بدأت خطورة الدعاية الحربية والشائعات والتضليل الاعلامي تبرز بوضوح على الحالة الإنسانية والاجتماعية والنفسية السيئة للسودانيين في كل مكان، وعلينا؛ في هذا الشهر – العاشر من إكتوبر اليوم العالمي للصحة النفسية- إدراك المخاطر النفسية التي يتعرض لها الانسان السوداني وعدم الإستهانة بها والوعي بأثارها المدمرة. فالمتابع للسوشل ميديا ونقاشات تجمعات السودانيين يلاحظ بوضوح حالة الحزن والسلبية وتكرار الذكريات وسرد المعاناة، والمؤاساة، فقد زادت معدلات الوفيات بصورة ملفتة خاصة وسط كبار السن نتيجة لأمراض عضوية فاقمتها الحالة النفسية “إضطراب ما بعد الصدمة” التي تعد أكثر التشخيصات السريرية شيوعاً بعد الحرب – على حد قول أحد الاطباء الاصدقاء – ، أما الشباب – الفئة الأكثر تضرراً من هذه الحرب اللعينة – يظهر عليهم إضطرابات الاعياء النفسي والاجهاد الانفعالي وعدم النوم وضعف القدرة على التركيز والإنكار والتظاهر بالتماسك والصمود وتبادل المشاعر المحبطة والاحلام المزعجة والاحساس بالعجز واعتبار ان حياتهم بلا معنى، فقد أصبح المشترك بين معظم الشباب هو العطالة وإنعدام فرص العمل وضياع الآمل والحلم خاصة وسط الطلاب ولا يخفى على أحد حجم التدمير الذي طال مؤسسات التعليم العام والعالي مما فرض سؤال مزعج لدى الطلاب حول مصيرهم ومستقبلهم العلمي. ووضع الاطفال أكثر سوءاً، من قبل الحرب كانت معدلات وفيات الرضع كبير جداً وإنعدام الرعاية الصحية للأطفال مصدر قلق محلي ودولي. أما النساء فقد وقع عليهن نصيب وافر من العنف الجسدي والجنسي والنفسي وإهدار الكرامة والهجرة القسرية وفقدان الأقارب والهروب من جحيم الحرب الي معسكرات الأيواء في ظروف إنسانية قاسية ولم تفارق الدموع العيون، حكت لي صحفية سودانية قصة خروجها من الخرطوم باعجوبة وتعرضها للاعتقال ومعاناتها وتشتت أسرتها وكيف أنها فجعت بوفاة تلو الأخرى من أقاربها قبل ان تلتقط أنفاسها وتستجمع قواها، وإستمعت وقرأت عشرات القصص حول أوضاع ومعاناة الإعلاميين في مناطق الحرب وخارجها. وأشار تقرير خاص لإسكاي نيوز عربية بتاريخ 2 يونيو 2023 الي حقيقة ان 60% من سكان مناطق الحرب في السودان بحاجة لعون نفسي بسبب فقدان الاقارب والاصدقاء والممتلكات والاحباب وإنعدام الاحساس بالحياة وعدم الثقة في الآخرين، واعتقد أن النسبة اكبر من ذلك بكثير.
بعد كل هذا الدمار والاثار الكارثية التي خلفتها الحرب حتى الآن، والتي لم تطال البنية التحتية فحسب بل إمتدت يدها لتدمير الإنسان السوداني بالجروح العميقة في النفوس والاجساد على السواء، رغم كل ذلك؛ مازال أطراف الحرب ودعاة استمرارها سادرين في غيهم كأن لهم غبينة مع الشعب السوداني! ويريدون الانتقام منه!، فلا اكتراث أو اهتمام بالمدنيين البته، بل بالعكس يستخدمونهم كدروع بشرية، فلم يسلموا من القصف المتواصل، والإنتهاكات، وتجاوز القيم الدينية والقانون الدولي وإتفاق جدة للدواعي الإنسانية، فقد تجردوا من الرحمة وشجاعة الفرسان في آن واحد، فقط يتعاملون مع من هم في صفهم ولا عزاء للمدنيين العزل، موقف أشبه بإجابة الجنرال تومي فرانكس قائد غزو العراق عندما سأله صحفي عن عدد القتلى، قال له: نحن لا نعد الجثث!.
خلفت الحرب المستمرة حتى الان ألاف من القصص المأساوية والآثار السلبية في المجتمع السوداني، وساهم تزايد العمليات العسكرية، والوضع المعيشي، وغلاء الاسعار، وتدهور الاوضاع الانسانية، وزرع الفتن والانقسامات الاجتماعية، وخلق معادلات صفرية رافضة للتفاوض والسلام في مضاعفة التوترات النفسية وبصورة أكبر في مناطق الحرب ومعسكرات النازحين في الولايات واللاجئين في دول الجوار، فالتوترات النفسية تعد أخطر مآلات هذه الحرب. الأمر الذي يستدعي تدخلات عميقة – فكرية وثقافية – للحد من المحنة والازمة النفسية للحرب، فهي ليس أقل اهمية من الجوانب الامنية والسياسية والانسانية، فالمطلوب اليوم قبل الغد مشروع متكامل في هذا الجانب يرتكز على تغيير إهتمامات الناس من ضيق دائرة الإستسلام والركون للدعاية الحربية الي سعة دائرة الفعل المعرفي الذي يستند على الحقيقة ومشارع الحق، والذي يبدد الأوهام التي يروجها الجهلاء الذين تحكموا في العقول والسلوك حين غفلة، مهم إعطاء الجانب الفكري أولوية فكما قال مالك بن نبي (إن التركيز على الحل السياسي وإهمال الحل الفكري لن يقود الي شئ)، وهذا لن يتأتي الا باسترجاع عقولنا المسلوبة وعواطفنا المنهوبة وتحمل مسئوليتنا تجاه أنفسنا والآخرين والبحث عن معني للحياة، قال فيكتور فرانكل – طبيب نمساوي وأحد الناجين من معتقلات النازية ومحارق الهولوكوست ومؤلف كتاب الإنسان والبحث عن المعني، والذي شرح فيه نفسية الانسان الذي يخرج من محنة مثل السجن او الحرب والتي تتطور من الصدمة الي الانكار والتوهم واليأس والانتحار وتمني الموت والاحساس بإنعدام القيمة والمعني وشرح فيه كيفية العلاج والتسامي النفسي – قال: (ان ما يمنعنا من الموت يجب ان يكون هو نفسه ما يحضنا على الحياة)، ويجسد ذات المعني إيليا أبو ماضي:
إن نفساً لم يشرق الحب فيها هي نفس لم تدر ما معناها،،
أنا بالحب قد وصلت الي نفسي وبالحب قد عرفت الله،،
إن واقعنا اليوم مأساوي في كل النواحي واخطرها الناحية النفسية للإنسان السوداني، والذي يعمق هذه المأساة هو إستمرار الحرب؛ ولن يتم تجاوزها الا بإستعادة العقل وتمكين القوة الناعمة المتمثلة في الثقافة والاعلام والإرشاد والتبشير الديني والمسرح والموسيقى والمنتديات والحوار المعرفي الذي يخاطب بعمق جذور الازمة، القوة الناعمة هي السلاح الوحيد الذي يمكن من خلاله إنهاء الحرب التي تدار بسلاحين هما: السلاح العسكري الذي يهدد السلامة الجسدية، والسلاح الايدلوجي القائم على الافكار المتطرفة والشطط الذي يهدد السلامة النفسية.
القوة الناعمة كما عرفها جوزيف ناي بـ “إنها القدرة على الجذب لا عن طريق الإزعان والقهر والتهديد العسكري والضغط الاقتصادي ولا عن طريق دفع الرشاوي والاموال لشراء التأييد والموالاة، بل عن طريق الجاذبية وجعل الاخرين يريدون ما تريد”، لذلك من المهم عدم الركون للحرب واطرافها وعدم تمكينهم من تعطيل الحياة والتحكم في مصير الناس، لابد للحياة أن تستمر لان إستمرارها هذا من أهم المداخل لإجبار المتحاربين لوضع السلاح ولإبطاله كألية للوصول الي الحكم وحل النزاعات، وبالتالي من المهم والضروري إستمرار إقامة مناسبات الزواج والافراح والاحتفالات بالمناسبات الدينية والوطنية والحفلات والليالي الشعرية والادبية والمسرحية وتشجيع الابداع والمباريات الكروية وكل ضروب الثقافة، قال شاعر الشعب محجوب شريف:
وأقول ليك يا صباح العين..
بنادق وين..
بتمنعنا العديل والزين.
وكذلك قالها شاعر القضية الفلسطينية محمود درويش:
يا حب لا هدف لنا الا الهزيمة في حروبك
فانتصر أنت وانتصر واسمع مديحك من ضحاياك..
القوة الناعمة هي الاتجاه الآمن لهزيمة الحرب وسرديتها وبناء نسق معرفي إبداعي مفتوح قادر على مواجهة نسق القبح والتوحش والتطرف والعنف، وتحويل المحنة الي منحة، وهو مدخل موضوعي لتحقيق التوافق النفسي والاجتماعي والتخلص من السلبية وتكوين شخصية خلاقة يقودها العقل والقلب معاً لإستعادة الآمل والتحول المدني الديمقراطي.
القوة الناعمة من شانها طئ المسافة بين النخب والشعب، وردم الهوة بين العلماء والبسطاء، وتحقيق التوازن بين كل فئات الشعب، وفتح الطريق للحرية والسلام والديمقراطية والتنمية. القوة الناعمة تظهر الجوانب الايجابية في السودانيين والتي تمكنهم من تقوية العلاقات الاجتماعية، وبث الآمل والتفاؤل، وعدم اليأس، وتشجيع العمل الطوعي والانساني، وتعزيز الصمود والصبر، والتكاتف والتضامن والحب، ومحاصرة خطاب الكراهية والعنصرية والقبلية. القوة الناعمة هي التي تبني وعياً ثقافياً وتنويرياً وتربوياً وترسم خطة للإرشاد النفسي، والاهتمام بالصحة النفسية، وتقوية النسيج الاجتماعي، وتأهيل مرشدين نفسيين وأخصائيين إجتماعيين لمجابهة المخاطر النفسية على المدى القريب والبعيد. القوة الناعمة هي التي تقود المجتمع وتغير سلوك أفراده لصالح الإحساس بالمسئولية وتعزيز الروح الوطنية، وهي التي تسهم في تأسيس خطاب ديني معتدل يخاطب عقوق وقلوب الناس بعيداً عن الارهاب الفكري والتكفير والتحشيد الحربي.
أعجبت جداً بصيغة كرت الدعوة الذي قدمته أسرة فيلم “وداعاً جوليا” لحضور العرض الخاص في سينما الزمالك بالقاهرة والذي جاءت كما يلي (في ظل العدوان الاسرائيلي الهمجي ضد الشعب الفلسطيني، نرى ان دورنا تتزايد أهميته في تسليط الضوء على الدمار الذي تسببه الكراهية عندما تدفع احدهم كي يضغط الزناد، من خلال قصة إنسانية مؤثرة على حافة صراع سياسي دموي في الفيلم السوداني وداعاً جوليا الذي نافس في مهرجان كان السينمائي 2023، ندعوكم لحضور العرض الخاص للفيلم، مع تمنياتنا بالسلام والحرية والعدالة لكل الشعوب). وزاد اعجابي أكثر بكلمة الاستاذ الحاج وراق في الاجتماع التحضيري للجبهة المدنية الديمقراطية الذي يبث روح الصمود والآمل (اليكم رابط الكلمة https://www.youtube.com/watch?v=D-emxK0vj4g).
wdalamin_2000@hotmail.com