ما أن أشعل الحرب فلول النظام البائد المختطفون لقرار القوات المسلحة، جعلت الرباعية الدولية مدينة جدة السعودية الساحلية منبراً للمفاوضات المنعقدة بين طرفي النزاع، من أجل وقف الحرب، وما هو معلوم عن العرف الدولي أن الحروب يوقفها الوسطاء المحايدون الذين لا ينتمون للأطراف المتقاتلة، والمملكة العربية السعودية مشهود لها بدورها المحوري في إيقاف الحرب الأهلية اللبنانية، باستضافتها للفصائل والمليشيات والأحزاب اللبنانية بمدينة الطائف، التي أنجبت الاتفاق الذي أوقف حرباً أهلية امتدت لعقد وعدد من السنين، اندلعت ببلدٍ شبيه بالسودان من حيث الاختلاف الديموغرافي والسياسي، وتقع أرض الحرمين في قلوب السودانيين والسودانيات موقعاً حسناً، وهي أكبر بلد يحتضن مغتربي السودان من بين البلدان التي تقاطر إليها الشعب السوداني، باللجوء والهجرة والاغتراب منذ عشرات السنين، هذا فضلاً عن موقعها الاستراتيجي على امتداد البحر الأحمر محط أنظار العالم، خاصةً بعد تكالب القوى الاقتصادية الدولية وتنافسها حول مداخله ومخارجه، كما لا يفوت علينا العلم بأهمية العلاقات الأزلية بين المملكة العربية السعودية والقويين الدولية والإقليمية، وفي التقاليد الإنسانية لا ينعقد مجلس الصلح إلّا بمنزل كبير القوم، وذلك لما لكلمته من إلزام أدبي قبل أن يكون واجب قانوني، لذلك نرى أعين أهل السودان الحزينة ترنو لجدة تفاؤلاً بالوصول إلى وقف دائم لإطلاق النار وإسكات نهائي لصوت البندقية.
في العاصمة الإثيوبية بدأ الترتيب لاجتماعات الجبهة المدنية لوقف الحرب، والدور الإثيوبي لا يقل شأناً عن دور أرض الحرمين في البحث عن السبل الكفيلة بتضميد جراح السودان، لكن الملاحظ في رموز الجبهة المدنية أنهم كانوا ولآخر يوم قبل اندلاع الحرب، يمثلون جزءًا من الأزمة باعتبار تماهيهما مع أحد طرفي النزاع، ولم تفلح محاولاتهم التوسطية بين الجيش والدعم السريع، فأشعل فتيل الحرب قائد الجيش الموالي لفلول النظام البائد، ومعه طاقمه القيادي الذي لا يقل عنه ولاءً لتنظيم الاخوان المسلمين، وإنّي لأرى أن رموز الجبهة المدنية من وزراء الحكومة المنقلب عليها بشقيها القحتاوي، والآخر المنضوي تحت لواء اتفاق جوبا(مؤتمر الموز)، جميعهما لم يكونا محايدين في موقفيهما من الجيش والدعم السريع، إبّان اختلافهما حول الاتفاق الإطاري، بل كان رموز الحكومة المنتمون لقحت هم الأكثر وضوحاً في انحيازهما لمشروع هيكلة الجيش، فمن باب الواجب الأخلاقي أن يستمر القحتاويون في مساندة حليفهم الذي قدم أروع الملاحم البطولية، وهو يصد مؤسسة الجيش المستحوذ عليها من حزب الفلول، وذات الواجب ينسحب على الشق الثاني من مكون الجبهة المدنية، الذي كان داعماً لانقلاب أكتوبر ومسانداً لقائد جيش الفلول، فلا مكان للحياد في معركة الديمقراطية والدولة المدنية التي تخوضها قوات الدعم السريع، وللأسف إنّ كل ما يحدث في أديس أبابا لا يعدو عن كونه نفاق سياسي.
إنّ النخبة الحزبية في بلادنا لا تتعلم الدروس الجديدة، ولا تنسى الدرس القديم الذي لم يجدي نفعا، فهي تداهن العسكر ليلاً ثم تلعنهم نهارا، وحينما أشعل فلول النظام البائد الحرب، فهاجموا قوات الدعم السريع التي كانت قد أعلنت انحيازها الواضح لمشروع التحول المدني الديمقراطي، لم يشفع لقوات الدعم السريع موقفها الشجاع في أن تتلقى ولو كلمة شكر من رفاق الأمس (رفاق ما قبل الحرب)، بل انزوى هؤلاء الداعون للتحول المدني والمتعصبون للاتفاق الاطاري، وبعضهم ربما وجد التأمين الكامل لطريق خروجه من العاصمة الخرطوم إلى جوبا وأسمرا وأديس أبابا، وربما حظي بالرعاية الأبوية من قيادة قوات الدعم السريع، فحظ المقاتلين الأشاوس الذين ضحوا بالمهج والأرواح مثل حظ خيل حمّاد، التي تركض (تجقلب) حول المضمار وتحقق النصر ثم يأتي حمّاد ليتلقى كلمات التعظيم والاحتفاء لفوزه هو، ونصره هو، وليس لتمجيد الخيل الأصيلة، ولكي تقف هذه الحرب لابد للقوى المدنية أن تعلن عن انحيازها الواضح لأحد الطرفين، فالاتفاق بين الجيشين سيتم وسوف يعقبه عمل دؤوب سيكون لفلول النظام البائد دور مدني وحيز ديمقراطي ضيّق، لا يمكن أن يمنعه أحد، ولو لم تقف القوى المدنية التي كانت مؤيدة لمشروع الاطار صفاً واحداً مع قوات الدعم السريغ، ستستمر هشاشة الوضع الأمني والترهل السياسي، ولن يجني المساكين المنتظرين غير اللجاجة المتوارثة منذ اليوم الذي تم فيه رفع علم (الاستغفال).
إسماعيل عبدالله
ismeel1@hotmail.com
25اكتوبر2023