منذ توحيد السودان على يد المهدي الإمام، لم يشهد مجتمعه تمزقاً قبلياً، ولم تفن مجموعاته بعضها بعضاً على نحو ما نتابع هذه الأيام. هذا التمزق والتشتت مؤشر لوهن العقد الاجتماعي السوداني، مثلما يشير إليه الانتماء النكوصي الغالب على الانتماء الوطني أو للفكرة أو الحزب.
الأسباب قُتلت بحثاً، لهذا أضرب عن ذكرها صفحاً، لأسارع بالتعليق على النداء الذي أطلقه مهجريون سودانيون في الولايات المتحدة الأمريكية في بداية أكتوبر الحالي تحت مسمى (لا للقبيلية – أنا سوداني). هذه المبادرة جاءت في وقتها، وقابلت مُقتضى الحال لا عجب؛ فبعد أحلك ساعات الظلام يبزغ الفجر، دوافع المبادرة لا تحتاج إلى تأويل أو استبطان فهي تندرج في استنتاج سوداني عام، ملَّ القبلية الضيقة وفاض كيله لمدى جعل الأغلبية ترى مخاطر الإصطفاف القبلي مهدد لبقاء السودان.
ويراهن الجميع على أن أي حوار وطني داخلي أو مع فصائل المقاومة لن يكتب له النجاح إلا إذا كان الانتماء للوطن حاضراً بأكثر من غيابه أو تغييبه. لهذا فإن مبادرة المهجرين السودانيين جاءت في وقتها لتتسع لاستيعاب هذا الهم العام. فهي ترى أن كل ما يجرى لا يعدو أن يكون مسكنات لا تستحق الاهتمام، وإن تمظهر تحت غطاء مصالحات عشائرية بريئة؛ لأن المسكنات لا تلبث تضيع تحت أحذية شركات القتل أو تختفي في غبار حروب القبائل وضجيج معاركها العبثية التي حدثت وتحدث حتى بين مجموعات عُدّت دائماً الأقرب إلى بعضها بعضاً، كالكبابيش والحمر في كردفان، أو الرزيقات والمعاليا في دار فور أو الرزيقات وجيرانهم المسيرية. إنها حروب داحس والغبراء في الألفية الثالثة. حروب لا تنفع معها حكايات (فاصل ونواصل) فما يأتي في سياق مسرح الدم المتنقل والعابر لحدود الأعراق والولايات، يندرج في مشاهد المسالخ البشرية التي تنتظم الإقليم. والحال كذلك لا بد من تصور شامل للخروج من حاله الاهتراء والتفكك والاقتتال. وإلا فإن الإستمرار في مطاردة المصالحات المؤقتة سيكون مثل سراب بقيعة يحسب الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً؛ مما سيطعن في صدقية وجود أرضية لأي حوار وطني حقيقي يحقق وحدة الوطن وتماسكه.
إن بيئة الحوار لن تقم طالما كانت المجموعات السودانية تفاجئنا بإعلانها شن حرب فناء متبادل فيما بينها. وقد رأينا مشاهداً من فلم الرعب في حرائق أبو كارنكا فضلاً عما جرى على تخوم سودري.
إن مبادرة المهجرين تبدو مهمومة بالدور السلبي للسلطة القائمة وبوكلائها الذين ظلوا يذكون أوار القبلية كما أنها مشغولة بضرورة وجود دور إيجابي لمعارضي النظام الذين يجب ألا يكتفوا بإحصاء أخطاء الحكومة السياسية. فالمبادرة تدعو إلى تسليط الضوء على حجم المأزق السوداني، وطرح مبادرات تنتشل البلد من الهوة السحيقة التي تتردى فيها نتيجة لضرب طبول القبلية.
إن نداء (لا للقبلية – أنا سوداني) يخاطب السودانيين لرفض التحيزات الجهوية المتوهمة في ممارساتهم وألا يختلفوا حول سلبيات التعريف الضيق للقبيلة. وعلينا إذن نفي الممارسات العنصرية، وتوهم النقاء والوقوع في فخ استبعاد وإقصاء الآخر. فقانون الفيزياء يقول لكل فعل رد فعل، وأن أي تصرف قبلي يولد رد فعل مفاده كما تراني أراك. والعلاج يبدأ بإعادة تعريف القبيلة لتعني الانتماء الإيجابي للأرض، ولمكون تجمعه الثقافة بأكثر من العرق.
إن القبيلة في السودان ظلت إطاراً ثقافياً أوسع من العشيرة والأسرة، ولكنها دائما ليست بديلاً للهوية الوطنية. هذا لا يعني إلغاء القبيلة فهي موجودة في كل المجتمعات والسودان ليس استثناءً. ولكن يعني الوعي بأن المجموعات السودانية ساهمت بوعي أو بدونه في تأسيس وطن يسع كل أهله، وكان من الطبيعي أن يتطور سعيها ليتبلور مشروع وطني، ولكن من أسف نشهد انقلاباً على هذا المنطق.
صحيح أن الانقلابات العسكرية ظلت تقطع مسيرة تطور السودان ومكوناته، ولكن مع ذلك ومنذ أيام السنارية وسلطنة الفور عبَّرت مكونات السودان عن تسامي عن الانتماء الضيق إلى ما يمكن عدّه خيالاً استراتيجياً حين أسمت أماكن سكنى القبائل بدار (فلان) أو دار علان.
ومصطلح (الدار) في السودان يرمز للتعايش والاستيعاب وقبول آخر؛ لأن الدار ظلت تضم أشتاتاً من الأعراق. وبناءً عليه ما من غريب دخل أي (دار) لأي قبيلة إلا زُوج وتملك وسكن وتم استيعابه. (فديار) القبائل التي كونت السودان الحالي، كانت تحمل بذرة الانتماء للوطن، لهذا رغم أن القبائل كانت تحكم نفسها ذاتياً، وتختار النظار بمحض إرادتها إلا أن الناظر ليس بالضرورة يتم اختياره وفق معايير العرق، وإنما معايير أخرى منها التدين أو الشجاعة أو التحلى بفضيلة العدل.
إن دار القبيلة بهذا المعنى فكرة عبقرية تحيلنا في جوهرها للإقرار بنفي النقاء الذي يتوهمه إنسان اليوم. لهذا من المفارقات أن يتراجع هذا الفهم إلى ما قبل الحالة الطبيعية أو إلى عصر إنسان الكهف لينقلب دور القبيلة من بوتقة إنصهار إلى شركة (بلاكوتتر) للقتل والسحل، أو لتنفيذ مقاولات التطهير العرقي للجوار. القبيلة في السودان تغني بفضائلها شعراء مثلما انتقدوا سلبيات الانكفاء عليها. قال العبادي رحمه الله:
جعلي ودنقلاوي وشايقي ايش فايداني
غير خلقت خلاف خلت اخوي عاداني
نبقى اولاد رجل يسري نبانا للبعيد والداني
يكفي النيل ابونا والجنس سوداني
وبدوافع وطنيه ضد الدخيل مدح المك نمر :
مو نمر الشدر حاضن فروعو مقيل
نمراً يضاير الصف محل ما ميل
إذن في درب الآباء المؤسسين للقومية السودانية النبيلة، تسعى المبادرة الجديدة إلى التصويب وإلى إعادة إنتاج مشروع وطني في مقابل الفرز والانكفاء على العرق. إنه غرس يتسع لاستيعاب مكونات السودان العربية والأفريقية، ويلفظ ممارسات صار اللون واللغة والعرق محددات للانتماء. إنه مشروع لملء فراغ حالة اللامشروع. مشروع يجمع أعراق السودانيين عبر المدخل الثقافي للعروبة وللأفريقانية لكى تماهى الثقافات لتولد ثقافة سودانية جامعة تعبر عن هوية وطنية واحده.
لكن الحرص على السير في ذات الدرب التاريخي ينبغي أن يدفع إلى العمل لتصويب التعريفات الدستورية والقانونية للمواطنة السودانية لتأسيسها على الحقوق والواجبات. فالمواطنة يجب أن تغطي الجميع في شموليتها القانونية من خلال عقد اجتماعي جديد للدولة السودانيهة فالعقد الاجتماعي في منظور فلاسفته مفهوم سياسي يقوم على قناعة الأفراد في وطن معين باتفاقهم على الخروج من الحالة الطبيعية أو حالة ما قبل الدولة أو الفوضى و(القيمان) والخطف والسحل إلى حالة منظمة تتساوى فيها الحقوق والواجبات. إن نداء (لا للقبلية أنا سوداني) يستلهم معاني مهمة، وهو خطوة أولى في رحلة الألف ميل، وتكمن أهمية المبادرة فى أن الخيارات الأخرى أغلبها سيء، وبدونها كٌل سيحكم ربط عنقه إلى حبل مشنقة.