في سياقنا السوداني حالياً، أي تشغيل لأسطوانة الهبوط الناعم هو “خرف سياسي بامتياز”
الخيار الوحيد المتاح أمام قوى مدنية تسعى للتغيير بوسائل سلمية هو الهبوط الناعم، بمعنى تفاوض جدي مع سلطة الأمر الواقع على شروط الانتقال إلى مربع سياسي جديد،
حتى لما تندلع الثورات أو الانتفاضات وتطيح برأس سلطة الأمر الواقع كما حدث في ثورة ديسمبر المجيدة التي أطاحت بالبشير، يظل النظام القديم عقبة أمام التغيير وجزء من المعادلة السياسية، لأن التغيير السلمي قصاراه هي أن يخلق أوضاعاً تدفع المؤسسة العسكرية لعزل رأس النظام، وبالتالي تجد قوى التغيير السلمي نفسها مجبرة على التفاوض مع ممثلي النظام القديم على شروط الانتقال إلى مربع جديد، مواصفات المربع الجديد وضمانات التقدم إلى الأمام باضطراد رهينة لوحدة وتماسك وتنظيم وفاعلية وكفاءة القوى الراغبة في التغيير نحو أوضاع أكثر عدلاً وديمقراطيةً واستجابةً للمصالح العامة، هذا هو منطق التغيير السلمي، وعلى هذا الأساس فإن كل من يعتقد أن الهبوط الناعم هو قنبلة ناسفة للمشروعية السياسية وكرت أحمر للطرد من ميدان النضال الديمقراطي فعليه أن يشرح لنا بالتفصيل الممل طريقته في التغيير عبر الهبوط الخشن، ففي الثالث عشر من أبريل عندما تكون المجلس العسكري فاوضته قوى الحرية والتغيير تحت وطأة الأمر الواقع، فهذه المؤسسة العسكرية كانت الذراع التنفيذي لاقتلاع البشير من القصر الجمهوري وإيداعه السجن، لو قلنا إن التفاوض خيانة وكان يجب أن تستمر الثورة حتى الإطاحة بالمجلس العسكري ففي ذلك ذهول عن طبيعة الواقع السوداني وتعقيداته المستجدة ممثلة في معضلة قوات الدعم السريع، هذه القوات قبلت بالإطاحة بالبشير والتقت إرادتها ساعة الإطاحة بالبشير مع إرادة الجيش الذي يسيطر عليه الكيزان، ولعبت قوات الدعم السريع دوراً حاسماً في استبعاد كل اللجنة الأمنية بقيادة عوض بن عوف، فلم يتبق من تلك اللجنة الأمنية سوى حميدتي نفسه الذي قلب ظهر المجن للكيزان، ليس من أجل الثورة أو الديمقراطية بل من أجل مصلحته الوجودية، لو اختار الثوار طريق الاستمرار في الثورة للإطاحة تماماً بالمجلس العسكري الجديد وهو بالمناسبة ليس اللجنة الأمنية التي كانت مكونة من كيزان من العيار الثقيل مثل كمال عبد المعروف وصلاح قوش وعمر زين العابدين ومصطفى محمد مصطفى وغيرهم، لو اختار الثوار الاستمرار في الثورة وتهيئة البلاد لتغيير جديد يطيح بالبرهان وحميدتي، فهذا معناه أنهم يرغبون في تحرك ضباط جدد من المؤسسة العسكرية لاقتياد البرهان وحميدتي إلى كوبر، ومؤكد هؤلاء الضباط سيكونون من الكيزان بدون أدنى شك، لأن الجيش محتل كيزانياً على مستوى دماغه ومفاصله القيادية، في هذه الحالة مؤكد حميدتي سوف يشتبك عسكرياً مع الكيزان مثل اشتباكه معهم الآن! فهل كانت قوى الثورة تمتلك ذراعاً عسكرياً للإطاحة بالبرهان وحميدتي وهزيمة الكيزان في ضربة واحدة قاضية؟ طرحت هذا السؤال على قوى التغيير الجذري مراراً وتكراراً دون جدوى! وما زلت اتحداهم بتقديم إجابة منطقية تحترم قواعد المنطق البسيط والمعطيات الواقعية للسياق السوداني الماثل أمامنا لا المتخيل.
الكيزان لأنهم يريدون استدامة سيطرتهم ولا يحتملون أدنى تغيير ناهيك عن التحولات الجوهرية أشعلوا هذه الحرب، والآن الصراع المسلح على أشده بين الجيش مدفوعاً من الكيزان وبين الدعم السريع، وأكبر تحدي أمام الشعب السوداني الآن هو إيقاف هذه الحرب بنصر للشعب السوداني لا لأحد طرفيها، ونصر الشعب السوداني بأن يتوقف القتال وتبدأ عملية سياسية للتحول الديمقراطي تنتهي بخروج العسكر بكل فصائلهم من السياسة والاقتصاد، وهذا الهدف يتطلب تحقيقه اصطفافاً مدنياً موحداً وقوياً، فبدلاً من تقسيم قوى الثورة والتغيير إلى جذريين ودعاة هبوط ناعم يجب أن ينسق الفريقان جهودهما في مواجهة العدو الاستراتيجي لأي شكل من أشكال التغيير سواء كان جذرياً أو سطحياً، وهذا العدو هو الكيزان وكتائب ظلهم والعسكر الراغبين في الدكتاتورية العسكرية بواسطة الجيش أو المليشياوية بواسطة الدعم السريع، بصراحة لم أفهم ما هو مكان حديث الهبوط الناعم من الإعراب في سياقنا هذا؟ من الذي يمتلك خيار الهبوط الخشن أصلاً؟ بمعنى من يمتلك جيشاً قادراً على دحر الكيزان وكتائبهم وإلحاق الهزيمة الساحقة بما تبقى من الجيش وإلحاق هزيمة مماثلة بالدعم السريع وتحرير البلاد تماماً من سيطرة هذا المثلث كيزان وجيش ودعم سريع ثم إقامة البديل السياسي الاقتصادي المختلف جذرياً وبعد ذلك يصبح السودان هو منصة الانطلاق إلى تحرير العالم أجمع من الإمبريالية والنيولبرالية وشنق آخر كمبرادور في الكرة الأرضية بأمعاء آخر جندي في حلف شمال الاطلسي!
نحن كقوى مدنية لا تمتلك سوى وسائل النضال السلمي ليس أمامنا سوى الاستثمار في وحدتنا وقدراتنا السياسية وتعظيمها بالعمل المشترك حتى نكون رقماً أساسياً في معادلة توازن القوى ومن ثم نفرض أجندة وأهداف الثورة في أي عملية تفاوضية لوقف الحرب وإحلال السلام.
من المضحكات المبكيات أن بعض دعاة التغيير الجذري الآن تحولوا إلى بلابسة! وانخرطوا في أكبر عملية غسيل للكيزان من وزر إشعال الحرب ولم يكتفو بذلك بل حاولوا إخراس من تصدى لتعرية الكيزان وفضح أجندتهم ومدى تمكنهم من الجيش لدرجة توريطه في حرب لا تخصه، عبر الإرهاب المعنوي ممثلاً في لوثة الكيزان والكيزانوفوبيا وغيرها! وهنا أيضاً أطرح سؤالاً على البلابسة الجذريين: ما هي الأوضاع التي تستهدفونها بالتغيير الجذري اصلاً؟ أليست هي تركة نظام الكيزان التي مثلت أكبر عدوان على الشعب السوداني في تاريخه؟ كيف نتخلص من تركة نظام الكيزان جذرياً عبر التواطؤ مع موقفهم من الحرب التي أشعلوها خصيصاً لإغلاق أي نافذة مفتوحة على التغيير ولو بشكل جزئي ناهيك عن التغيير الجذري!