جاء في بيان الاجتماع التمهيدي لتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم)، الذي عقد في أديس أبابا في الـ25 من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، أنهم بصدد تنظيم ورش عمل تخصصية في جملة موضوعات منها الإصلاح الأمني والعسكري. ومنهم طوائف تنتظر نهاية الحرب لاستئناف العملية السياسية التي سبقت اندلاعها في الـ15 من أبريل (نيسان) الماضي. ودارت تلك العملية حول ما يسمى الاتفاق الإطاري الذي جرى التوقيع عليه بين القوات المسلحة وقوات “الدعم السريع” وقوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) (قحت). وانفجرت الحرب حول خطة الإطاري للإصلاح العسكري والأمني ومادة دمج قوات “الدعم السريع” في القوات المسلحة بالذات.
وطالما كنا بصدد استئناف العملية السياسة، متى وقفت الحرب، صح السؤال، للإصابة في الأمر بمرتنا المقبلة، إن لم يكن ثمة عوار خَلقي أساس في خطة دمج “الدعم السريع” في القوات المسلحة كما جاءت في الإطاري. وبغض النظر عن الحماسة التي يظهرها الفريق أول محمد حمدان دقلو، قائد “الدعم السريع”، للدمج، إلا أنه صح السؤال مع ذلك أن كان هذا الدمج مما اتفق له أصلاً. بكلمة أخرى: هل كانت سياسات الدمج، التي تحيل “الدعم السريع” للاستيداع طال الزمن أم قصر، واقعية حيال مؤسسة عسكرية خاصة؟ فما الذي يغري مؤسسة في متانتها العسكرية والمادية التي كشفت عنها الحرب لتتلاشى بخاطر طايب في جيش وطني مهني موحد؟ ولخاطر من؟
فات على “قحت” في سياساتها للإصلاح العسكري أن حميدتي لم يتصالح مع فكرة دمج “الدعم السريع” فحسب، بل ظل يستنكرها أيضاً بغير مواربة. وحقيقة موقف حميدتي من الدمج مما كشف عنه سلمان محمد سلمان المتخصص القانوني السابق بالبنك الدولي في كتابه “الدعم السريع: النشأة والتمدد والطريق إلى حرب أبريل 2023” في يونيو (حزيران) 2023. فقعد فيه للتكييف القانوني لقوات “الدعم السريع” في الدولة منذ صدور قانونها عام 2017. ووضح منه سهر حميدتي الحاذق أن تكون “الدعم السريع” الجيش الثاني في السودان حذو النعل بالنعل مع القوات المسلحة. فلم يقبل إلا مكرهاً ما جاء في المادة 5 من قانون “الدعم السريع” التي تخضعه للقوات المسلحة في حالتين: أولاهما في حالة الطوارئ وفي مناطق العمليات الحربية، وثانيهما متى قرر رئيس الجمهورية دمجه في القوات المسلحة، بحسب الدستور. ولم يقبل حميدتي بصيغة الدمج تلك. وقال سلمان إنه توقف عندها شهراً بحاله يراجع الحكومة حولها، ثم أذعن ليجري توقيع رئيس الجمهورية على المرسوم القانوني. وظل حميدتي على كرهه لمادة دمجه تلك حتى سنحت ظروف مواتية بعد ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 ودولتها الانتقالية، التي احتاج الجيش فيها إلى خدماته في التنكيل بها وتبشيعها، ليقبض الثمن، وهو إلغاء المجلس العسكري الحاكم وقتها تلك المادة بمرسوم دستوري في يوليو (تموز) 2019.
ومن الجهة الأخرى، ما فرط حميدتي في سانحة لتعزيز قيادته المستقلة لـ”الدعم السريع” والدولة. فعطل تكوين المجلس الذي أوكل له القانون إدارة “الدعم السريع” من جهة اللوائح الإدارية والمالية. وصارت هذه الإدارة بيده لا يشرك أحداً فيها حتى قال سلمان إنه صار له التصرف في قواته بقدر أكبر من تصرف قائد القوات المسلحة، المحكوم بنظم الدولة الإدارية والمالية، في جيشه، ثم احتل منصب نائب رئيس مجلس السيادة الذي تكون بعد الثورة في شراكة عسكرية مع المدنيين بغير تخويل دستوري من الوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية، وترقى فريقاً أولاً بعد انقلابه والجيش على الحكومة الانتقالية في أكتوبر 2012. واستنفد صلاحيات كل هذه المواقف ليعزز “الدعم السريع” كياناً عصياً على الدمج.
ولا يعرف المرء عدد المرات التي قال فيها حميدتي صراحة إنه لن يخضع للدمج في القوات المسلحة. فعقيدته الراسخة أن “الدعم السريع” جاء ليبقى. فجاء في كتاب “جنجويد الإمبراطورية” لعشاري أحمد محمود أن حميدتي أعاد في تأبينه لأحد قادة القوات المسلحة في الرابع من يونيو 2021 ما سبق أن قاله للطاهر حسن التوم على برنامج “حتى تكتمل الصورة” في 2018 حرفاً بحرف. فقال في تأبين 2021، والدعوة إلى حل “الدعم السريع” لا مجرد دمجها يتردد صداها في شوارع الخرطوم، إن انشغال الناس بدمج قواته مجرد جهل بمنشئها وأدوارها في الدفاع عن البلد. فقواته قامت لتهدئ من روع دولة خشيت من غزو حركات دارفور المسلحة للخرطوم حتى إنها فكرت في هدم جسر مدينة كوستي الرابط بين الغرب والعاصمة. وقامت قواته بالواجب. فما احتاجت الحكومة إلى هدم الجسر. واستنكر على المطالبين بدمجهم، بعد خدماتهم تلك للبلد، هذا الجحود: يأكلونهم لحماً ويرمونهم عظماً.
ونواصل
IbrahimA@missouri.edu