برحيل فتى ام درمان الألمعي، وشاعرها القوّال، وأديبها الفصيح الاستاذ كمال الجزولي المحامي الفاجع بمصر اليوم، انهد ركن ركين من اركان الادب والفكر والثقافة والسياسة في السودان. كان كمال الجزولي جوهرة مضيئة في عقد نضيد من الساسة والمفكرين والادباء والشعراء والصحفيين والرياضيين والظرفاء ظل يزين عقد ام درمان العاصمة الوطنية، أو مدينة التراب كما نعتها الراحل البروفيسور علي المك احد ابنائها البررة في زمان مضى، ذلك التراب اذي استحال بفعل هذه الحرب المدمرة الى اكوام من الركام والحطام والدرين الذي شهدت ذراته خلال العقود الخالية من تخلقها، خروج خير بني السودان كما كتب عبد المنعم عبد الحي وصدح العميد أحمد المصطفى … والامر لله من قبل ومن بعد.
كان آخر عهدي بكمال الجزولي في مجلس جمعنا معاً قبل نحو عامين، مع ثلة طيبة من الفضلاء من محبي الفكر والثقافة والادب، من مختلف المشارب والخلفيات، مأدبة عشاء دعانا لها صديقنا المشترك الدكتور معتصم يوسف مصطفى، احتفاء بمقدم الشاعر الكبير السفير محمد المكي ابراهيم من الولايات المتحدة لقضاء عطلة في البلاد بعد طول غيبة عنها.
كنت التقى كمالا قبل ذلك أحياناً ، في جولات التفاوض بين الحكومة والحركة الشعبية التي كان يستضيفها فندق راديسون بالعاصمة الاثيوبية ” أديس أبابا “، حول ما كان يسمى بالصراع في المنطقتين اي جنوب كردفان وجنوب النيل الازرق، انا ضمن وفد الحكومة بحكم المهنة، وهو بوصفه صديقا او مستشارا لوفد الحركة، وكان كثيرا ما يصحبه صديقه الاثير الشاعر فضيلي جماع، فيحتفيان بي حفاوة ظاهرة كانت تسعدني حقاً، وننسى المفاوضات برهةً، ونقبل على ما يجمع بيننا ويقربنا من حب الادب والثقافة وما اليهما. ولله در شاعرنا الفذ التيجاني يوسف بشير اذ يقول مخاطباً مصر:
وثّقي من علائق الأدب الباقي ولا تحفلي بأشياءَ أخرى !
ومرةً نوّه كمال الجزولي ببعض ما أنشر من مقالات في الوان شتى من الثقافة والفن والادب في احدى روزنامته الشهيرة التي كان ينشرها بانتظام ورقيا والكترونيا، وخصوصاً بصحيفة سودانايل الالكترونية، حيث ظللت انشر انا أيضاً بانتظام، منذ ما يربو على العقدين من الزمان. وقد سرني ذلك التقريظ غاية السرور بطبيعة الحال، نظراً لصدوره من اديب كبير وشاعر شهير في قامة الاستاذ كمال الجزولي.
ولبيتُ في عصر احد الايام قبل بضعة اعوام، دعوة غداء احتفالاً بعقد قران شاب يمت بالقرابة لزوجتي، أقيم بحي بانت بأم درمان، فاذا بي أشاهد كمال الجزولي جالسا في ظل العصرية لجدار أحد المنازل، خارج السرادق ولكن على مقربة منه، وهو يتجاذب أطراف الحديث مع صديقيه الاستاذ الاديب والروائي عثمان حامد سليمان وهو خال زوجتي، ومعهما المطرب الكبير الاستاذ. ابو عركي البخيت، وقد ظلت تجمع بين ثلاثتهم صداقة حميمة. فهرعت نحوهم للتحية والسلام بالطبع.
كان كمال الجزولي شديد الحفاوة والوفاء لأصدقائه الاحياء منهم والراحلين الى رحاب مولاهم، ومن بين هؤلاء صديقنا المشترك و استاذنا السفير الاديب والناقد البصير عبد الهادي الصديق رحمه الله ، الذي كان كمال الجزولي يؤثر ان يلقبه تدليلاً ب ” هُدهُد “، وأحسب أنه قد كان من أترابه، وهو مثله قد كان من أبناء أم درمان من ذوي الطابع المميز ، والميسم الواضح ، الذين اذا قلت لاحدهم فقط تنح عن الدرب يا هذا، وخصوصاً ان كنت من ابناء الاقاليم، لعدد امامك شخوص البانثيون الامدرماني اياه: سوف الموية، سينما برمبل، قهوة يوسف الفكي، قهوة ود الاغا، الترماي، مكي ود عروسة، سوق الطواقي، زريبة العيش الخ الخ، يرددون ذلك في تلذذ واستمتاع ظاهرين، وما عليك الا ان تتظاهر بالتجاوب انت ايضا، واظهار التأثر والانبهار بما تسمع.
نشأ كمال الجزولي في تلك البيئة الاجتماعية الفريدة التي اورثته واترابه ذلك الاحساس بالزهو والتميز، منذ ان طرق اسماعهم قول عبد المنعم عبد الحي ذاك:
فخير بنيك يا سوداني مني
سلوا الحادي سلوا الشادي المغني
مما أكسبهم ثقة في انفسهم واعتداداً ظاهراً بها ، ولقد كان فقيدنا العزيز الاستاذ كمال الجزولي، بكل تأكيد، احد حداة ام درمان الحبيبة، بل الوطن باسره في عوالم الثقافة والفكر والابداع.
رحم الله تعالى الاستاذ كمال الجزولي رحمة واسعة، وغفر له ، واكرم نزله عنده، واحسن عزاء اسرته وجميع اله وذويه واصدقائه وزملائه وعارفي فضله حيثما كانوا.. انا لله وانا اليه راجعون.