لكمال الجزولي الصديق والزميل والرفيق وإنسان الفضاء العام أوجه متعددة تعهدها بالرعاية والعناية وكان سخي بها عقود طويلة بالسهر والسجون والعرق والمعاناة والاستقامة حتى شكلت ملامحه وتميزه وتفرده وشخصيته التي اشرأبت بباذخ الحضور وسط مئات الآلاف من المثقفين المتميزين في بلادنا.
كان كمال- الثقافة- الحزب- الكتابة- الصحافة- القانون- المحاماة-الإبداع -الشعر – الشجاعة-الصراحة- العدالة الانتقالية- الروزنامة- اللغة- المرافعات السياسية- الحساسية تجاه الإبداع والمبدعين- تجويد المقالة- الاستقلالية- الاعتداد بالرأي.
مر اسمه علي في المرة الأولى في نهاية السبعينات وبداية الثمانيات وانا أطالع صحيفة الميدان السرية وهي تنشر أسماء المعتقلين في سجون السودان على أيام نظام نميري، لازلت أذكر معظمهم عن ظهر قلب- حسن كنترول- علي عسيلات-علي الماحي السخي- محمد علي دليل- يوسف حسين- التوم النيتيفه- التجاني الطيب بابكر- عبد المجيد النور شكاك- محجوب شريف- طه سيد أحمد- سيد طه- محمد عثمان مكي- الضو أحمد بابكر- فوزي أمين- دوك مشار- عباس السباعي- قاسم عباس- الجزولي سعيد- الفاتح كنونه-عبد الوهاب صالح- حسن عثمان- وإلى أخر القائمة الطويلة.
في الحزب لم يكن كمال الجزولي تابعاً أو عاصياً بل صاحب رأي وسهم لم يخشى وغى الصراعات داخل الحزب وخارجه وكانت استقالته من اللجنة المركزية بعد انتخابه لافتة للنظر وشجاعة أكدت استقلالية رأيه وفي المقابل ظل كمال مدافعاً شرساً عن الحزب الشيوعي ضد خصومه ولا يتوانى في الرد على منتقديه وحرص ايما حرص للحفاظ على عضويته في الحزب ومغادرة الحياة وهو مازال في صفوف الشيوعيين، تم ذلك عن رغبة واختيار واعتزاز.
كتب كمال الجزولي إسمه في قائمة النضال ضد الشمولية ونطق في وقت صام فيه أخرين عن الحديث، تحدث ضد القمع وهو صاحب سيرة موثقة في الجهر عند أزمنة الصمت، ونما إسمه وترعرع عند اعتاب المجاهرة بالرأي وتحدي السلطات الغاشمة ورحل في وقت كم يحتاجه فيه شعبنا في معارك قادمات لا مثيل لها في تاريخ السودان الحديث، فاستعادة الفضاء المدني دونها البنادق والنزوح واللجوء والاقتصاد السياسي وصراع الموارد والسلطة والتي ستأخذ وقتاً طويلاً وتضحيات عظام حتى تفرض القوى الديمقراطية وتبسط رأيها في الحرب وبعد الحرب.
التزم كمال برأي حزبه ولكنه في نفس الوقت كان يستمع لرأي الأخرين ولم يعتزل الذين اختلفوا مع رأي الحزب وحافظ على صداقاته مع الاحتفاظ بمساحة الاختلاف في الرأي وتعدد المسارات وداوم على صداقات متينة مع شخصيات لم تكن على وفاق مع حزبه ولم يفسد ذلك لوده قضية مما يحمد له.
في انتفاضة أبريل ١٩٨٥ كان هناك ندوة في نادي أساتذة جامعة الخرطوم وكنا حضور وأعطيت الفرصة لصديقنا الأستاذ والشاعر عبد المنعم رحمة ليقرأ قصيدة وبدلاً من قراءة قصيدته حرض الحضور وذكرهم بان الانتفاضة لم تحقق أهدافها وان الأستاذين حسن ساتي وفضل الله محمد لا يزالان في مكاتبهم في جريدتي الأيام والصحافة ودعا الحضور للتجمع صباحاً عند سينما كلزيوم والذهاب لجريدتي الأيام والصحافة واخراج رئيسي التحرير، ومع الفجر تجمعنا على شاي الصباح عند سينما كلزيوم، وحينما اجتمع الحشد وتجمع الثوار وكنا شباباً في قمة اللياقة ذهبنا إلى مبنى جريدة الأيام المجاور وأغلقنا الجريدة واتجهنا صوب ناصية المقرن شاهرين هتافنا ( الصحافة عايزة نظافة) ودخلنا مكتب رئيس التحرير وللمرة الأولى شاهدت الأستاذ الصحفي الكبير والمبدع فضل الله محمد عليه رحمة الله وكان يرتدي جلباب أبيض أنيق، وهو كزميله الأستاذ حسن ساتي عليه الرحمة صحفيي ذوي شأن، كان الأستاذ فضل الله يقف أمامنا في صمت، عندها فتحنا الثلاجة ووزعنا الماء على المتظاهرين وفي تلك اللحظة ظهر الأستاذين كمال الجزولي ومحجوب شريف وحالا بين المتظاهرين والأستاذ فضل الله محمد وقد كانت هي المرة الأولى التي رأيت فيها كمال، ثم ظهر ممثل للمجلس العسكري الانتقالي وقام بحماية الأستاذ فضل الله وخرج معه، لاحقاً التقيت الأستاذ فضل الله محمد في القاهرة في فترة معارضة الانقاذ وكان انساناً مهنياً مهذباً ومحترماً.
في ١٥ فبراير ٢٠٢٣ هاتفني كمال وطلب مني التأكيد على حضوري لحفل زفاف يزن أبن صديقنا الأستاذ أبو العركي البخيت وقد كان ذلك لقائنا الأخير في الخرطوم، وبعد شهرين في ١٥ أبريل اندلعت الحرب، في تلك الأمسية جلست معه ومع المبدع محمد المكي إبراهيم ودكتور صديق تاور ودكتور صلاح الأمين.
في يوليو الماضي كان لقائنا الأخير في القاهرة ورغم المشاغل وضيق الوقت الا ان هاتفاً قوي كان يجول في خاطري بضرورة الاطمئنان على صحته فذهبت مع الأستاذين حمور زيادة ومنعم الجاك وأسعدنا استقباله الحار مع زوجته الدكتورة فايزة حسين وابنه الدكتور ابي ودار بيننا حوار طويل حول الحرب ومآلاتها وعند نهاية اللقاء وعلى غير عادته طلب منا أن نأخذ صورة تذكارية معاً وهي الصورة التي تصاحب هذا المقال وكأنه أدرك إن هذا لقاءنا الأخير.
كان جزء من هوية كمال مكتبه المميز في شارع الجمهورية وبيته في بحري وهو الامدرماني مزاجاً ونشأةً وكانت الحركة السياسية والمدنية تمثل سياجه المتين وحينما اقتلعته الحرب اللعينة من الخرطوم وذهب إلى القاهرة أضاف ذلك إلى متاعبه وربما عجل برحيله فهو المرابط في الخرطوم صيفاً وخريفاً لم يغادرها في السنوات الصعبة سيما سنوات فاشية الانقاذ وعاش وسط الحركة الديمقراطية وكان ترساً من تروسها وارتكازاً من ارتكازاتها ضد القمع.
سرني أن تشاركنا وكمال المحبة والود العميق للمبدع الكبير محمد وردي وقد قمنا بزيارته مراراً في منزله، وكذلك تقديرنا الكبير ليوسف حسين، ولم التقي كمال في سنوات المهجر خارج السودان إلا سألته وحملته تحياتي وأشواقي للزاهد والعابد في محراب الشعب يوسف حسين.
كمال مخلص لأصدقائه وأحبائه وفي مكتبه بشارع الجمهورية تطالعك صور أصدقائه محمد إبراهيم نقد وعلي عبد القيوم ومحجوب شريف وهو دائم الحكي عنهم.
في ندوة الميدان الشرقي بجامعة الخرطوم بعد الانتفاضة قدم كمال الجزولي، محمد إبراهيم نقد في أول ظهور له وفي أهم ندوة له قدمه بكعب عالي وأدب رفيع وأثار المشاعر وأستحق الهتاف والتصفيق.
كان كمال ذو معرفة دقيقة بحركة الثقافة وتياراتها سيما المتدفقة من الستينات وأجيال مبدعي اليسار بحكم مشاركته الفاعلة وعمله في مكتب الأدباء والفنانين الذين شكلوا بصمات واضحة ومؤثرة في عالم الإبداع السوداني، وقبل ذهابه للدراسة في الاتحاد السوفيتي عمل بالصحافة في فترة مزدهرة من فترات نهوضها وله حكي وسرديات مهمة لشخوص تلك الفترة وعالمها.
لكمال اهتمامات بالمبدعين والسياسة خارج السودان ولن انسى حضوري أمسية باتعة في منزله كان ضيفها الرسمي الشاعر والصوت الانساني العالمي والناطق بإسم فلسطين في كل الأزمنة ومعاناة الشعوب جميعاً محمود درويش، وفي تلك الأمسية سألني محمود درويش عدة أسئلة عن الدكتور جون قرنق بعد أن قدمني له كمال الجزولي وذكر لي انه قد استمع لخطاب جون قرنق في توقيع اتفاق نيفاشا من مدينة رام الله وتسأل عن علاقة قرنق بفكر اليسار والتقدم.
أهتم كمال بقضايا الهامش ولم يتردد حينما قدمت له الدعوة بأن يكون مستشاراً لوفد الحركة الشعبية في اديس ابابا في الفترة من ٢.١١-٢.١٦ وحضر عدة مرات إلى اديس ولم يبخل بابداء النصح والمشورة قبل حضوره.
ترك كمال في وسط الحركة الديمقراطية مكاناً شاغراً لم يكن ليشغله الا هو ، فقد كان يوازن بين التزامه الحزبي ويمد يده إلى كافة القوى الديمقراطية في معادلة رصينة.
قبل اندلاع الحرب بوقت وجيز طلب مني بأن ارافقه والأستاذ كمال عمر المحامي لاداء واجب العزاء في وفاة الدكتور عبدالله حمدنالله وشرح لي بدقة لما يهتم بإسلامي ملتزم مثل دكتور عبدالله. وقبل عدة سنوات في الفترة من ٥..٢-٢٠١٠ ساهم الأستاذ كمال الجزولي في مناقشات بيني وبين الدكتور غازي صلاح الدين على أيام رئاسة كلينا لكتلتي الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني في البرلمان وكان كمال واضحاً وصارماً في انحيازه للديمقراطية والعدالة ولم يجامل غازي صلاح الدين وحاول أن يبذل جهداً من أجل الحفاظ على وحدة السودان أو الوصول إلى كونفدرالية بين دولتي السودان وقد التقينا بعدد من قادة الحركة الشعبية في مناقشة قضية الكنفدرالية والعلاقة بين شمال وجنوب السودان والدولتين لاحقاً.
عملت مع كمال وأصدقاء عديدين على رأسهم الأستاذ الحاج وراق في محاولات متعددة لتوحيد القوى الديمقراطية وقوى ثورة ديسمبر في الفترة الانتقالية المجهضة من قبل الفلول بالانقلاب تارة والحرب تارة أخرى وظل الأستاذ كمال الجزولي حريصاً على وحدة قوى الثورة مع التزامه بخط حزبه.
كان كمال دائم الحضور في الملمات والشدائد لا الترف وشارك في أهم المرافعات السياسية للدفاع عن القوى الديمقراطية وقادتها ورغم مواقفه الصارمة والمبدئية والحادة في بعض القضايا الا انه مد حبال الوصل مع الوطنيين والديمقراطيين وتشهد علاقته المتينة مع الأمام الصادق المهدي ودكتور أمين مكي مدني وأخرين كثر على أهمية المكانة التي اكتسبها واستحقها عن جدارة.
عزائي الحار لكل آل الجزولي وآل حسين والدكتورة فايزة وأبنائه ابي وأروى وكل أهله وأصدقائه ومحبيه وحزبه.
رحم الله كمال رحمة واسعة وانزله منزلة الصديقين والشهداء
١٢ نوفمبر ٢.٢٣