في سياق البحث عن “المعادلة الكسبية” التي تحقق السلام والتحول الديمقراطي، لا نستطيع ان نتجاهل كل الدماء التي سالت في هذه البلاد، وننسى كل الجرائم الكبرى التي ارتكبت، وبذات القدر ليس بالإمكان انفاذ عدالة العين بالعين والسن بالسن حرفيا على جميع من أجرموا، ولذلك يحتاج السودان لتصميم “نموذج سوداني للعدالة الانتقالية”، يحقق فكرة “شراء المستقبل” بشرط تصفية الحساب مع الماضي بصورة تحترم عقول الشعب وتضحياته، تفصيل هذا النموذج بكفاءة على الواقع السوداني وعلى ضوء تحدياته هو واجب الخبراء السودانيين في هذا المجال ويجب ان يكون من اهم اولويات قوى السلام والتحول الديمقراطي.
في الوقت الذي نطالب فيه بإيقاف الحرب والكف عن إعاقة جهود بناء السلام والتحول الديمقراطي ليس من الحكمة ان يكون الخطاب الموجه لقيادات الجيش والدعم السريع “يا عسكر مافي حصانة يا المشنقة يا الزنزانة” لأن هذا الشعار سيدفعهم لالتماس الحصانة المستدامة في التمسك بجيوشهم كما هي وبسلطتهم المفروضة بقوة السلاح لانها الوحيدة التي توفر لهم الامان الشخصي، إقناع القوى التي تتقاتل بالكف عن القتال وكف اسلحتها عن عرقلة مساعي الانتقال الى مربع السلام والحكم المدني يتطلب الاستعداد لتحفيزها على ذلك بضمان مخرج آمن بعفو او حصانة او أي صيغة متوافق عليها، بشرط ان يتم كل ذلك في سياق إعادة هيكلة مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والعدلية في اتجاه لايسمح مجددا بانتهاكات حقوق الانسان والافلات من العقاب مستقبلا، وبشرط انفاذ العدالة الجنائية في الحق الخاص الذي لا يسقط بحصانة او عفو او تقادم، اذ يظل من حق الضحايا التقاضي محليا ودوليا عن حقهم الخاص ويجب إصحاح البيئة السياسية والقانونية لمساعدتهم على ذلك، وفي ذات الوقت نحتاج لخطاب سياسي يشجع على إعلاء روح المصالحة والتعافي طوعا واختيارا.
السودان لن يعيد اكتشاف العجلة في مجال العدالة الانتقالية، فالعالم حافل بتجارب لدول يشهد تاريخها وتوثق متاحفها أبشع جرائم القتل والتعذيب والمجازر الجماعية والتطهير العرقي(جنوب أفريقيا ورواندا مثلا)، ولكنها لم تحبس نفسها في الماضي واشترت المستقبل، ليس بنسيان الماضي بالكامل، بل بحسن إدراك الماضي الاليم واستخلاص الدروس الصحيحة منه، وعقد العزم على عدم تكرار مآسيه في المستقبل ، عقد العزم ليس بالكلام بل بحزمة من التدابير السياسية والقانونية والمؤسسية التي تضمن عدم تكرار ما حدث في الماضي مستقبلا، وابتداع آليات لكشف الحقائق والاعتذار والمصالحة وتمكين الضحايا من حق التقاضي بالفعل، وخلق مناخ سياسي وثقافي يشجع على التسامح والعفو.
حتى نظام روما المؤسس لمحكمة الجنايات الدولية ، تنص المادة 16 منه على “إرجاء التحقيق او المقاضاة” لمدة اثني عشرة شهرا قابلة للتجديد (دون سقف لعدد المرات) بناء على طلب من مجلس الامن تحت الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة، والمنطق الذي يسند هذه المادة هو ان مقتضيات السلام والاستقرار في بعض الحالات تقتضي تأجيل تنفيذ العدالة الى حين، ليس لأن العدالة ليست مطلوبة ومقدسة، ولكن لأن منطق العدالة نفسه يرتب الاولويات بحيث يجعل من تحقيق السلام الذي يوقف نزيف الدم ويوقف قتل وتشريد واغتصاب وتعذيب المزيد من الضحايا في الحاضر والمستقبل، مقدم على القصاص الفوري لضحايا الماضي. وبكل تأكيد لو كان القصاص الفوري متاحا فلن يتردد احد في تطبيقه، ولكن عندما تكون البلاد تحت وطأة حرب كحربنا هذه، يكون الوضع أشبه بوضع شخص له ابن تم قتله وابن اخر رهينة في قبضة القاتل الذي يهدد بقتل الابن الذي في قبضته لولم يسمح له بالفرار ، في هذه الحالة هل نطالب الاب بان يجعل عقاب المجرم مقدما على انقاذ حياة ابنه الوحيد المتبقي له؟!
الطريق الى لجم المزايدات
اول خطوة لهزيمة الغوغائية هي توطين العقلانية في مناقشة القضايا السياسية، وربط كل فكرة تطرح بنهاياتها المنطقية في سياق الواقع الماثل، فمثلا من يطرح الآن فكرة ان السلام يجب ان يكون مشروطا بالمحاسبة السياسية والجنائية لطرفي الحرب ممثلين في قيادات الدعم السريع والجيش، فيجب ان يسأل عن تصوره العملي لتحقيق ذلك، المحاسبة السياسية والجنائية لقيادات جيوش جرارة كهذه مهما كانت درجة صوابها الاخلاقي فإنها غير متاحة في سياقنا، لأننا لا نملك قوة عسكرية كاسحة كي نراهن عليها في فرض “عدالة المنتصر” وإصدار حكم فوري بحل قوات الدعم السريع وحكم اخر بحل الجيش ومحاكمات فورية تعلق القيادات على المشانق ! والسؤال المهم هل “عدالة المنتصر” دائما تحقق السلام والديمقراطية؟ في العراق مثلا، عندما نفذت الولايات المتحدة الأمريكية قرار حل الجيش العراقي بالقوة وأعدمت صدام حسين وابرز رموز نظامه ، انخرطت عناصر الجيش المحلول في تكوين مليشيات ارهابية احالت حياة العراقيين الى جحيم جعلهم يشتاقون الى ايام صدام حسين!
آفة الخطاب السياسي في السودان بعد الثورة هو استسهال المزايدات الثورية في مجال العدالة وعدم الاستعداد لتفهم تعقيدات الواقع والقفز الى اصدار حكم تجريمي على كل من يتحسس الواقع ويحاول ايجاد حلول معقولة واتهامه بانه يفعل ذلك من باب التواطؤ مع المجرمين ومساعدتهم على الافلات من العقاب، في حين ان هناك تنازلات ومساومات يفرضها الواقع لصالح السلام والاستقرار وكف ايدي المجرمين عن سفك مزيد من الدماء وازهاق مزيد من الارواح.
العامل الحاسم في لجم المزايدات هو الشفافية في إدارة ملف العدالة، وان يكون ثمن أي تنازلات يتم تقديمها للقيادات المسؤولة عن الانتهاكات هو دفع استحقاقات السلام والاصلاحات الجوهرية للدولة بشكل يضمن عدم تكرار الانتهاكات، ورد الاعتبار للضحايا بكشف الحقائق كاملة وارساء نموذج حقيقي للعدالة الانتقالية، بمعنى البعد كل البعد عن تمييع قضية العدالة لأنها من مقتضيات السلام والاستقرار وكذلك البعد عن الخفة والاستسهال لموضوع العدالة وافتراض انها تحقيقها ممكن بين عشية وضحاها، ففي ظل الخراب الشامل في الدولة السودانية ومن اهم المؤسسات التي طالها الخراب وفقدت تأهيلها الفني والاخلاقي هي المؤسسات العدلية من قضاء ونيابة عامة، ودون اعادة بناء لهذه المؤسسات في سياق التأسيس الجديد للدولة السودانية لن يكون بالإمكان انفاذ أي عدالة، وفي ظل واقع كهذا سنجد انفسنا مطالبين ليس فقط بتسليم المطلوبين لمحكمة الجنايات الدولية بل سنحتاج لامحالة كثير من قضايا جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لهذه المحكمة.
إن الأشواق الثورية النبيلة للعدالة والحرية ، لن تتحقق بمجرد الهتاف والمزايدات المدفوعة بروح المنافسة السياسية أو الأجندة التخريبية التي تهدف لتقسيم صف التغيير على اساس الطهرانية الثورية. بل تحقق بعسر مخاض في الجهد والزمن، لا نملك سوى ضبط بوصلتنا الفكرية والسياسية والاخلاقية في الاتجاه الصحيح ثم نسرع الخطى صوبه ما استطعنا.