تمر اليوم الذكرى الثالثة لرحيل الإمام الصادق المهدي – عليه رحمة الله ورضوانه- الذي كان قبسا من نور في هذا العالم، رحل تاركا بصماته المضيئة وسيرته المجيدة كرمز من رموز الديمقراطية في السودان، ورائد من رواد التجديد في الفكر الإسلامي، وكمناضل تصدى لكل الدكتاتوريات وتقدم كل الثورات.
رحل حامل المسك من هذا الوطن فاستوطنت رائحة الجثث والبارود والكراهية!
كان الراحل المقيم في صدارة الفعل والتفاعل الفكري والسياسي على مدى ستين عاما من تاريخ السودان المستقل، وبالتالي فإن مسيرة حياته العامة، وكيفية تعاطيه مع الأحداث المفصلية ، وما راكمه من رؤى وأفكار في تفسيرها، وما خرج به من استنتاجات وخلاصات حولها، شكلت إضاءات لا تكتمل رواية أو قراءة ذلك التاريخ إلا بها، وفي هذا السياق محطات عديدة يمكننا التوقف عندها.
لكنني أتوقف في هذه الذكرى عند محطة ثورة ديسمبر التي كان للإمام موقفا واضحا ومعلنا في تمجيدها ودعمها والمشاركة في إنجاحها، وكان ذلك الموقف تتويجا لتاريخ طويل من التصدي لنظام الإنقاذ منذ يومه الأول والتعرض للسجن والتعذيب والتهديد ومحاولات الاغتيال الجسدي والمعنوي والتشريد، ولكن رغم ذلك ثابرت الأبواق الإعلامية لنظام البشير أثناء ثورة ديسمبر على تصوير الإمام الصادق المهدي كعدو لها ومتطفل عليها ، وبكل أسف تواطأ مع هذه الحملة الظالمة بعض المختلفين مع الإمام فكريا وسياسيا فرددوا أكاذيبها لأنهم يرغبون في إزاحته من الملعب السياسي بالأكاذيب واغتيال الشخصية لا بالتنافس السياسي الشريف والمحاججة المنطقية.
الأبواق الكيزانية اختزلت موقف الإمام من الثورة في عبارة “بوخة المرقة” التي ما زال البعض يرددها حتى الآن! وهي جملة عابرة قالها في مؤتمر صحفي في سياق الرد على من يقللون من دور حزب الأمة في الثورة وتأكيد أن مشاركة الحزب في الفعل الثوري ليست مجرد “بوخة مرقة” كما يفعل البعض، هذه العبارة انتزعت من سياقها تماما وروج لها الإعلام الكيزاني على أساس أنها هجوم على الثورة واستخفاف بها! .
ماذا قال الإمام الصادق المهدي عن ثورة ديسمبر
في مسجد الهجرة بودنوباوي في 25 يناير 2019 وعندما كان الحراك الثوري مشتعلا والبشير ما زال متشبثا بالسلطة وقمع الثوار قال الإمام الراحل بالنص في خطبة الجمعة – وهي مسجلة بالصوت والصورة تناقلتها الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي- :
“هذا الجيل من أبنائنا وبناتنا أظهر الآن حماسة وبسالة منقطعة النظير. لقد تحملوا مساويء النظام في التعليم والعطالة، وحافظوا على قوة الإرادة وبسالة الوطنية كما شب موسى عليه السلام في بلاط فرعون.
*برز في نهج الثوار رفضاً تاماً للعنصرية والفتنة الإثنية التي عمقها النظام.
*أظهر التحرك الشعبي طاقات رائعة في الفنون التشكيلية والغنائية والشعر واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي بكفاءة عالية.
*الهبة الشعبية هذه المرة أظهرت مثابرة استمرت حتى الآن أكثر من شهر رغم العنف الفعلي واللفظي، وما زالت العزيمة صاعدة.
*أرباب وربات البيوت أظهروا عطفاً بالغاً على أبنائنا وبناتنا المطاردين في الأحياء.
*الأجهزة الإعلامية العربية والدولية كشفت الحقائق بصورة موضوعية ومستمرة. كما فعل كثير من الكتاب السودانيين وغيرهم. لقد جمعنا قائمة بأسماء هؤلاء الأحرار لتكريمهم إذ لم يخشوا في الحق لومة لائم.
*الالتزام المثير للإعجاب بالأخلاق السودانية الحميدة، وتمسكهم بالسلمية في الغالب في وجه البطش الدموي ما عرى النظام وأظهر نبل الثوار ووعيهم المتقدم.
أكان للسودانيين في الخارج، السودانيون بلا حدود، دور مهم في التجاوب مع نهضة وطنهم. كما أن الرأي العام العالمي، ما عدا المؤلفة جيوبهم، قدر مشروعية حركة التحرير الوطني.
أبدت الدول ذات القيم الديمقراطية بالإجماع تأييدها لحرية التعبير السلمية، وإدانتها لقتل وحبس الذين مارسوا حقهم المشروع في التعبير السلمي.
أحبابي وأخواني
نحن نؤيد هذا التحرك الشعبي، داعين لتجنب أية مظاهر للعنف المادي واللفظي. وندين قتل الأحرار والعنف المفرط الذي مورس ضدهم، بتشجيع من فتاوى حكام باطلة وظالمة تبرر العنف والقتل واستخدام الرصاص الحي ضد مواطنين عزل. وكما قال الشاعر العراقي: القاتل من أفتى بالقتل وليس المستفتي.
بلغ عدد الشهداء حتى الآن خمسين شهيداً، والجرحى أضعاف ذلك. وبلغ عدد المحبوسين مئات من المواطنين والمواطنات. رحم الله الشهداء الذين سوف نصلي عليهم صلاة الغائب بعد الفريضة، ونسأل الله للجرحى عاجل الشفاء، ونطالب ونعمل على إطلاق سراح المعتقلين فإنهم مارسوا حقوقاً إنسانية ودستورية. ونطالب بلجنة تحقيق ذات مصداقية لا لجنة الخصم والحكم، لجنة تشرف عليها اللجنة الفنية التابعة للأمم المتحدة لتجري تحقيقاً في كل هذه الممارسات الباطشة لمعرفة الحقائق ومساءلة الجناة.” انتهى الاقتباس من الخطبة.
فهل هذا الموقف له علاقة بمعاداة الثورة؟! أم انحياز مبدئي لها خصوصا أن الخطبة كانت في 25 يناير 2019 أي عندما كانت الثورة في منتصف الطريق ولم تنتصر بعد!
إن حكاية “بوخة المرقة” ما هي إلا نموذج صغير لما تفعله أبواق الأنظمة الدكتاتورية في تضليل الرأي العام وتكريس سردياتها عن الأحداث والأشخاص بما يخدم أهدافها في تقسيم الصف الوطني وزراعة الكراهية والفتن عبر ترويج الأكاذيب، وهذا يستوجب السعي لمعرفة الحقائق، والالتزام الأخلاقي بعدم استخدام الأكاذيب في تصفية الحسابات السياسية ضد الخصوم او المنافسين السياسيين, لا سيما أن السودان في هذا الظرف التاريخي العصيب يحتاج إلى تعميق ثقافة العمل المشترك بين تياراته المختلفة ومن ثم بناء “كتلة تاريخية” قادرة على انتشاله من واقع الحرب التي تهدد وجوده.
ما زال الحزن حيا والخاطر مكسورا ، والعزاء في بشريات خطها الحبيب فكرا وصدقها فعلا وتاج هذه البشريات: “الديمقراطية في السودان عائدة وراجحة”!
هو عنوان كتاب كتبه في سجن كوبر بعد انقلاب الإنقاذ المشؤوم، كتبه بعد ليلة من التهديد والوعيد والإيذاء بواسطة ضباط أمن اقتادوه من سجن كوبر إلى أحد بيوت الأشباح وأحضروا كاميرات تلفزيونية لكي يسجل لهم شهادة بأن النظام الديمقراطي في السودان قد فشل فلم يفعل!
طبت مقاما في الخالدين أيها الحبيب!