لا يكفي أن نصف الحرب الدائرة الآن بين القوات المسلحة والدعم السريع بالعبثية، فالعبث يترى منذ اندلاع هذه الحرب اللعينة، وبصفتي صحفيّاً تؤلمني عبثية المشهد الإعلامي، في الوقت الذي يحتاج فيه الوطن إلى إعلام رشيد، قائم بدايةً على المعلومات الصحيحة، ثم التحليل الواعي، الذي ينحاز إلى الوطن، بموضوعيته، وتجرده من الذاتية، والانتماء الضيق، سواء أكان لحزب، أم جهة، أم للأنا.
إنَّ هذه الأنا أفرزت ما يمكن وصفه بالأوبئة الإعلامية، التي تتكاثر بشكل أميبي، وتبرز أمراضًا اجتماعية لا أعلم هل كان مسكوت عنها، أم أنها كانت كالخلايا النائمة، وجدت في الحرب بيئة مواتية، لتفصح عن نفسها.
الشذوذ من الجنسين يملأ الساحة، فنجد أنَّ من أخفق أن يكون فنانًا، رأى أن يتحوّل إلى مسخ مثير للشفقة، حتى يمكن القول إنه لا (خلقة ولا أخلاق)، ومن المؤسف أن يجد متابعين يصفونه بالشجاع؛ لأنه رفض أن يكون رجلاً، وارتضى هذه الإطلالة التي تدر عليه دخلاً لم يستطع أن يحصل عليه بمؤهله العلمي، ولا بادعائه الفن، الذي يعني السمو عندما يكون الفنان أصيلاً.
وتملأ الساحة نساء كبيرات في السن، وفتيات، تستغرب أن يكن سودانيات، بسبب ما يتسمن من بذاءة فائقة في القول، وابتذال في اللبس، ثم ضحالة في الفكر، وقبح لا حدّ له، فتصيبنا الدهشة من جرأتهن على اقتحام حياتنا بكل هذه البضاعة الصدئة.
وأقبح من ذلك بعض من يقدمون اللايفات، أو البث المباشر، فالموضوع الذي يُطرح لا معلومة صحيحة أو موثقة عنه، والتقديم يعتمد على الصراخ و(البل)، التي في ظني أسوأ مصطلح سوداني، وقد تابعت لقاء بين اثنين من أسوأ من أفرزتهم مرحلة الثورة، وما بعدها، وهما: أبو رهف، الذي يأكل عيش بهيئته العجيبة، وبضاعته التي تنتصر للشائعة، وبث ما يريده من يدفع، وأسلوبه الذي يعتمد على الشعبوية و”الرجالة”، وتعالى تعالى، كأي بائع متجول يسوق لما يبيع من أوانٍ منزلية و”ربابيكيا” كما في مصر، والثاني ذلك “الشايب” المتصابي صلاح سندالة، أحد المستفزين من أصحاب اللايفات، وعلى المتابع أن يأخذ الجانب الآخر، لأنه لا ينطق إلا عن هوى، ويعطي لنفسه حق الإساءة للآخرين من دون أن يطرف له جفن.
عندما اجتمع الاثنان، شعرت كما لو أن مجاري الصرف الصحي في المدينة قد انفجرت فجأة، فتسمم الجو، حتى أصبت بالغثيان، فقد تخيّر أبو رهف أسوأ مفردات القاموس، التي لا يمكن أن تسمعها، فما بالك بأسرتك، وفيها الابن والبنت والأم والزوجة، كيف لهؤلاء أن يتعرضوا لمثل هذا البذاءة التي تقتحمهم بلا استئذان. كما أن ما يدعو للرثاء عدم احترام الصغير الكبير، والتبسط في القول إلى حد البذاءة المقيتة، وتأتي ضحكة الشايب (المايعة) لتزداد سوداوية المشهد.
وتماثلهما في البذاء، تلك البدينة، التي تعترف بأنّها خُلقت ونشأت على البذاءة، وتطالب من لا يعجبه هذا الوحل، ألا يتابعها، وقد ترحمنا على أيام أخريات كنا نصفهن بالبذاءة، ولكن اليوم نرى أنهن فضليات بالمقارنة.
السؤال: هل عجزنا نحن الإعلاميين أن نطوّر قدراتنا، ونواكب العصر، فجاء هؤلاء ليملؤوا الفراغ؟ أم أن المتلقي غيّرته الظروف الحالية فأصبح يؤثر الغث، ويستسيغه أكثر من السمين؟ أم لا سمين يٌقدم في ظل ما تشهده الساحة من استقطاب حاد.
تعريجة: تلفزيون السودان عاد إلى عهد الإنقاذ في مرحلته الأولى، حيث دغدغة المشاعر بالشعارات الدينية، والأغاني الحماسية، والتهليل والتكبير، والتركيز على (سفة خالد سلك) أكثر من تقديم معلومة عما يحدث في أرض المعركة، والإجابة عن سؤال: إلى أين يتجه السودان؟