بَكَيْتُكَ حَتَّى أنَّ دَمْعِيَ عَقَّنِي،
وحتّى احْتَوَى حُزْنِي حَشَايَ وأَعْظُمِي.
رأيْتُكَ تَمْضي تارِكاً لي مصائباً،
أغالِبُها وحْدِي، وقَدْ كُنْتَ سيِّدي،
لِساني الذي أدْعُو إذا عَقَّنِي فَمِي.
وما كان عهدي مُنْذُ خمسين حِجَّةً
عَرَفْتُكَ فيها لا تُجيبُ تَكَلُّمِي!
أَتَتْركُني فيما هُنا نهْبَ عُصْبةٍ
تَيَاسَرْنَ لَحْمِي في سُعَارٍ جَهَنَّمِي.
وعَهْدُكَ ما أَخْلَفْتَ وَعْداً لِصاحِبٍ
أتاكَ، وما دافَعْتَ إلّا بِصارِمِ.
وما اسْتَصْرخَ الضُعَفاءُ إلّا نَصَرْتَهُمْ،
كأنَّكَ مَنْذُورٌ لِدَرْءِ المَآثِمِ.
سَتَذْكُرُ ساحاتُ العدَالَةِ كُلُّهَا
وقوفَكَ فيها كالسِّنانِ المُثَلَّمِ
وسيفُكَ بَتَّارٌ على كُلِّ غاشِمٍ
وكُلِّ غَوِيٍّ فاجِرٍ وغَشَمْشَمِ.
وتَزْأَرُ حتَّى تَقْشَعِرَّ فَرائِصٌ
تُزَلْزِلُ أرْكانَ الْجُيُوشِ العَرَمْرَمِ
بِقَوْلٍ يَشُدُّ الحَقُّ بُنْيانَ مَتْنِهِ
يُزَيِّنُهُ سَبْكُ البيان المُقَوَّمِ
تُرافِعُ في أُمِّ القضايا بِمَنْطِقٍ،
يُثَقِّفُهُ عِلْمٌ كما الشَّهْدُ في الفَمِ
جَعَلْتَ من القانون لوحَةَ شاعِرٍ
رشيقَ الحَوَاشِي مُشْرِقَ الوَجْهِ باسِمِ،
وكُنَّا عهدْناهُ نُصوصاً عَوِيصَةً
كَئِيبَ المَبَانِي، كالِحَ الوَجْهِ أسْحَمِ
فَعَالَجْتَهُ حتّى ألَنْتَ عَصِيَّهُ
فأصْبَحَ (في بُرْدَيكَ) سَهْلَ التَرَنُّمِ.
دَلَفْتَ إلَى دارِ الصحافةِ فارِساً
على قَلَمٍ سَهْلِ القِيَادِ مُطَهَّمِ
تَدَرَّبْتَ فيها مُنْذُ أَنْ كُنْتَ يافِعاً
تُصارِعُ في هذا العُبابِ المُلاطِمِ
تُحَطِّمُ في الأِصْنامِ ما هِبْتَ زاجِراً
يُدافِعُ عن ذاك الحُطامِ المُهَشَّمِ
تُطَرِّزُهَا روزْنامةً ذاتَ بَهْجَةٍ
تُحَلِّقُ في شَأْوٍ من الفِكْرِ عَيْلَمِ
حديقةُ أفْكارٍ، وروضةُ شاعرٍ،
ومأْرِزُ إبْداعٍ نضيرِ البَراعِمِ.
جَمَالٌ مِن الألْفاظِ والحِلْمِ والنُّهَى
قلائِدُ من سَبْكِ الكلامِ المُنَظَّمِ
هُوَ الطَّوْدُ، لا تُخْطِئْهُ مُقْلَةُ باصَرٍ
ويَلْمَسُهُ من كان ذا بَصَرٍ عَمِي!
تَعَمَّقْتَ في بحر العلوم مُشَمِّراً
بِهِمَّةِ غَوَّاصٍ جَرِئٍ مُخَضْرَمِ
تُعالِجُ في أَصْدافِهِ غيْرَ عابِئٍ
بمِوَجْ ٍعَتِيٍّ أَوْ ظلامٍ مُخَيِّمِ،
وتُنْفِذُ في الأَعْماقِ سَهْماً مُسَدَّداً
لتصطادَ دُرَّاً منْ فُرَادَى وتَوْأَمِ
لك القلَمُ الأَعْلاَ الذي بِشَبَاتِهِ
أَصَبْتَ فَلَمْ تُخْطِئْ ولَمْ تَتَلَعْثَمِ
ألَا يا طاهِرَ الأَرْدانِ واليَدِ والْفَمِ
ويا طَيِّبَ الأكْنَافِ بالنُبْلِ مُحْتَمِي
ويا عاشِقَ امْ دُرْمانَ لا عِشْقَ غيْرَها،
وهَلْ غَيْرَ أُمْ دُرْمانَ قُلْتَ لها اسْلَمِي؟
وما أخْلَفَتْ يوماً قِطاراً لِمَوْعدٍ
وما اسْتَأْنَسَتْ إلَّا بِتِلْكَ العَوَاصِمِ
وما بَرَزَتْ إلّا لِتَلْقاكَ جَهْرةً
على مَلإٍ شُوسٍ، أُسُودٍ، ضَيَاغِمِ.
تُحِبُّكَ أُمْ دُرْمانُ حُبَّاً مُضاعَفاً
لِحُبَّكَ إيَّاهَا هَوَىً ذا تَضَرُِّمِ.
وحَقِّكَ، حَتَّى أنَّهَا سَفَرَتْ ضُحَىً
تُبَارِزُ بالبِيضِ الصِّقالِ الصَّوارِمِ
تَخَيَّرْتَها لمَّا رأيْتَ جمُوعَهُمْ
تَنَادَوْا عليها، خاطبينَ لِوُدِّهَا
فَكُنْتَ فتاها الفَرْدَ لا عَنْ تَوَهُّمِ.
هِيَ امْ دُرْمَانَ ذاتُ العَزائِمِ،
وهِيَ أمْ دُرْمانُ أُمُّ الكَرائِمِ،
وَهِي امْدُرْمانُ أنْتَ كَمَالُهَا
ولَمْ تَكُ بِدْعاً في الخِصالِ المُتَمَّمِ.
فَتىً حَاذِقٌ، حازَ الكَمالاتِ كُلِّهَا
إيْ، ورَبِّي، للمَكارِمِ يَنْتَمِي
أُعَزِّيكِ أُمْ دُرْمانَ في فَقْدِ شاعرٍ
صديقٍ، صدُوقٍ، صادِقِ الوُدِّ حازِمِ
وتَبْقَى المَوَدَّاتُ الّتيِ لا يَشُوبُهَا
رياءٌ، ولا يعتادُهَا عِطْرُ مَنْشَمِ.
عليه شآبيبٌ من اللهِ رحْمَةً
على قبره النَّائِي عن الوطن الظَّمِي
لقدْ كانَ يَرْجُو أَنْ يُجِنَّكَ تُرْبُهُ ولوْ كانَ قبْراً في جدارٍ مهدم
ومنْ وطنٍ يشتاقُ ضَمَّكَ قُرْبُهُ،
لِتَرْقُدَ في أحْضانِهِ المُتَأَلِّمِ.
سَنَبْكِي كثيراً، إنَّ فَقْدَكَ مُوجِعٌ،
وأَوْجَعُ مِنْهُ ما سَفَحْناهُ مِنْ دَمِ
وأَوْجَعُ مِنْهُ ما أَضَعْنَاهُ كُلُّنَا
وما سَفَحَتْهُ الحرب فوق الجماجم!!
عالم عباس
جدة/ نوفمبر٢٠٢٣