أدى تواصل موجات الاغتراب والهجرات بالشكل الذي ذكرناه في مقالنا السابق إلى خلق سودان مواٍز في المهجر بكل تفاصيله، في وقت غابت فيه كلياً أية خطة أو إستراتيجية للتعامل مع السودان المهجري، الأمر الذي جعل المهجريين يواجهون مصيراً مجهولاً أينما حلوا.
المهجري السوداني يغادر الوطن وقد استنفد كل أمواله وموارده وموارد أهله، وربما استدان عليها لتوفير تكاليف الهجرة، وهو يمني نفسه وأهله بحياة رغدة ومستقبل زاهر.
ما أن يحط المهجري الرحال في وجهته حتى يجد نفسه مواجهاً برحلة البحث عن العمل قد تمتد شهوراً، أو سنوات، وربما يضطر في نهاية الأمر إلى قبول وظيفة لا تتناسب مع مؤهلاته وقدراته ومقابل راتب زهيد.
تستمر المعاناة طوال سنوات الهجرة في السعي إلى توفير العيش الكريم ومتطلبات الأسرة الممتدة داخل السودان وخارجه، وفي الوقت ذاته يجد نفسه مواجهاً باستمرار الظلم والقهر ومطارداً من أجهزة النظام الأمنية التى فرضت عليه الهجرة القهرية، إضافة إلى استنزاف السفارات وجهاز العاملين بالخارج لموارده المحدودة بفرض الضرائب والزكوات والأتاوات.
وفى ظل هذه الظروف القاسية يبقى الحديث عن الإدخار، وقيام المهجري بتوفير جزء من دخله لمستقبل حياته أو لمواجهة حالات الطوارئ ضرباً من الخيال، بل مجرد أحلام يقظه.
إن جهاز العاملين بالخارج الذي أنشيء لخدمة المهجريين أصبح فى عهد حكومة الإنقاذ ذراعاً لأجهزة النظام الاستخباراتية لمتابعة المعارضين فى الخارج، وأداة لتمكين حزب المؤتمر الوطني فى السفارات والجاليات ومؤسسات المجتمع، وأداة لجباية أموالٍ لا يدري أحد فيما يوظف.
وفي الوقت الذي يمنى المهجريون أنفسهم بتغيير السياسات، وإعادة ترتيب الأوضاع مع قدوم كل مسؤول جديد إلا أن الامر لا يعدو أن يكون سراباً، رغم أن معظم من تعاقبوا على إدارة الجهاز هم ممن في الاغتراب، ولم يعد المهجريون يطمعون فى تغير الأحوال مع تبادل الأدوار بواسطة قيادات الجهاز، فأصبح الوضع مشابهاً لما عبر عنه دعبل الخزاعي حول حكام بني أمية :
خلـيفة مات لم يحزن له أحد وآخر قام لم يفرح به أحد
فمر ذاك ومر الشؤم يتبعه وقام ذاك فقام النحس والنكد
إن المهاجرين الذين غادروا الوطن قهراً يواجهون الآن معاناة العودة قسراً نتيجة لتغير الأوضاع الاقتصادية وأولويات تلك الدول وإستراتيجيانها فى توظيف القوي العاملة، وسياسات التوطين؛ مما يجعلهم غير مرحبين بالقوى العاملة الأجنبية بحجمها السابق. و
رغم قضية العودة القسرية التي ظلت تتكرر خلال الأعوام الماضية، واجه فيها العائدون مشاكل متداخلة ومعقدة، فإن دور السلطات الرسمية ظلت غائبة، لا يتعدي دور مسؤوليها الظهور الإعلامي والعلاقات العامة.
إن قضية العودة قديمة متجددة، بدأت بقضية عودة المغتربين من الكويت والعراق بعد حرب الخليج، ثم العودة من ليبيا بعد سقوط نظام القذافي، والعودة من اليمن في أعقاب عاصفة الحزم، وفي جميع الحالات المشار إليها، فإن دور السلطات الحكومية لم تتجاوز التصريحات الجوفاء والوعود الكاذبة، لتظل قضايا العودة من تلك الدول تتراكم دون معالجة إستراتيجية وموضوعية.
ويكفي للاستدلال تصريح الأمين العام لجهاز المغتربين الذي ظل يطلق التصريحات عن توافر خبرة متراكمة فى معالجة ترتيبات العائدين، ويعلن فى الوقت ذاته أن الجهاز ليس جمعية خيرية حتى تتحمل مسؤوليتها نحو توظيف العائدين.
إن واقع الأمر للأسف يكذب كل تصريح وادعاء حكومي فيما يتعلق بحل المشكلة كعادتها فى التعامل مع كل مشكلة وقضية تواجه الوطن.
إن الدول التى تهتم برعاياها تحركت بشكل سريع نحو المملكة العربية السعودية عند تطبيقها لبرامج (وطن بلا مخالف) بغرض التنسيق والترتيبات على أعلى المستويات؛ لتسهيل عودة رعاياها فى الوقت الذي لم تحرك فيه حكومتنا ساكناً فى هذا الاتجاه ليواجه العائدون الأمرين في البلد المضيف وفي وطنٍ لم يكن مستعداً أو حتى مرحباً بعودتهم، وهذا ما سنتناوله فى الحلقة المقبلة.
ونواصل