على الرغم من التشابه في أجواء النشأة والطفولة التي عاشها هذان العالمان والأديبان الكبيران رغم الفارق النسبي في عصريهما، وخصوصاً التشابه في البيئتين اللتين ترعرعا فيهما من الناحية الاجتماعية والثقافية والتعليمية الباكرة بصفة عامة، إلا ان من الملاحظ من خلال مطالعتنا لكتاب الايام، هو أن طه حسين – ربما بسبب إعاقته البصرية – قد نشأ طفلاً منطوياً على نفسه، وحزيناً، وكئيباً، نوعاً ما، ثم انه صار في صباه وشبابه فتىً. شكساً ومتبرماً وساخطاً وسوداوي المزاج عموماً، ليغدو بعد نضجه ايضاً، رجلاً متمرداً ومرتاباً ومتشككاً في جل ما هو مالوف وسائد ونمطي من المسلمات المعرفية، والأوضاع الاجتماعية خصوصا فيما يتعلق بالثقافة العربية الإسلامية.
وعلى النقيض من طه حسين، تفتحت عينا عبد الله الطيب على شخصية متوثبة ومنفتحة ومرحة وأريحية ، ومتفائلة ومحبة لبيئتها المحلية، ومن ورائها الثقافة العربية والإسلامية الجامعة عبر تاريخها الطويل، وبجميع رموزها ومشخصاتها، بل نشأ على ايمان واعتناق عميقين بسبقها وريادتها وتفوقها وأصالتها وتميزها، وجدارتها بتبوء ما تستحقه من مكانة مرموقة في الصدارة من سجل الحضارة والثقافة الإنسانية عموماً. وعبد الله الطيب هاهنا بالتحديد، يقرب من الاستاذ عباس محمود العقاد، وخصوصا في عبقرياته وإسلامياته ، ولا يذهب مذهب طه حسين على الرغم من حبه وتقديره له. وعندنا انه انما منعه أساساً احساسه بالامتنان نحو طه حسين، من ان ينتقد هذا الأخير مثلاً، فيما ذهب اليه من تشكيك في اصالة الشعر الجاهلي وحقيقته نصوصاً وناظمين، كما جاء في كتابه ” في الشعر الجاهلي ” الذي صدر في عام ١٩٢٦م، وأثار حينها جدلاً واسعاً كما هو معروف.
والحق ان عبد الله الطيب كان يجمع على صعيد واحد في حبه لثلة من رموز النهضة الادبية المعاصرة في الشرق العربي، وخصوصاً في مصر، بين اشخاص متباينين غاية التباين، ومتناقضين ومتنافرين اشد التنافر، بل كانت بين بعضهما بعضا إحنٌ وعداوات وخصومات ضارية. ولكنهم للمفارقة كانوا جميعا قريبين إلى فكره وعقله ووجدانه، وذلك لاسباب تخصه هو ، وهي اسباب وثيقة الصلة بنزعته الفكرية واستعداده الثقافي وذائقته الفنية والادبية. والدليل على ذلك انه كان يحب امير الشعراء احمد شوقي، والعقاد، وطه حسين، وعلي الجارم، ومصطفى صادق الرافعي، ومحمود شاكر، وذلك على سبيل المثال فقط.
هذا، وعلى الرغم من الاختلاف الواضح بين طه حسين وعبد الله الطيب ايديولوجيا وفكريا ، وخصوصاً من حيث الموقف من التراث و الحداثة عموماً، ومن العلاقة مع الغرب بالتحديد، بحيث كان الاول تقدمياً إلى الحد الأقصى، يقول بضرورة تبني الحضارة والثقافة الغربية بحلوها ومرها كما نص على ذلك في كتابه ” مستقبل الثقافة في مصر “، بينما جاء الاخر محافظاً يرى اخذ ما يصلح من تلك الحضارة ويتوافق مع الثوابت والقواعد الأساسية للامة فقط، واطراح ما سواها، فان من الملاحظ ان كليهما قد كان يتبنى موقفا محافظاً بالأحرى ، حيال مسالة التجديد الشعري، وخصوصا نظم الشعر على الطريقة الأوروبية ، من دون تقيد بالأوزان والبحور الخليلية التقليدية. إلا ان عبد الله الطيب كان على سبيل المثال ، اتساقاً مع قناعاته الايديولوجية والفكرية حيال اولية الثقافة العربية وتميزها، يرى كما كان يرى الجاحظ من قبل، أنه ” ليس لغير العرب شعرٌ “، امعاناً منه في تمجيد الثقافة العربية والشعر العربي بالتحديد.
وانطلاقاً من تلك القناعة، كان عبد الله الطيب مهتماً بعقد المقارنات بين الشعر العربي والاشعار الغربية وخصوصا الانجلوسكسونية ، واستبصار وجود اوجه شبه ، بل ما كان يرى أنها بينات على وجود شبه قوية للتاثر، بل السطو على التراث الشعري العربي، على نحو ما هو موجود بكثرة في تراث عبد الله الطيب عموماً، وخصوصا كتابه ” بين النير والنور “. ومن ذلك رايه ان قول الشاعر الإنجليزي وليام بليك 1757 – 1827م في وصف النمر:
Tigger tigger burning bright
in the forests of the night
اخذه من قول ابي الطيب المتنبي في وصف الاسد:
ما شوهدت عيناه الا ظنتا
تحت الدجى نارَ الفريق حلولا
وكما ان طه حسين قد اقترن بأوروبية هي السيدة الفرنسية سوزان، فقد اقترن عبد الله الطيب بأوروبية اخرى هي السيدة الإنجليزية جريزلدا او جوهرة ، وقد كان لكلتا هاتين السيدين، دور مؤثر وجوهري، في اعمار حياتي هذين العلمين، واسعادهما، ومساعدتهما مساعدات جمة في مسيرتيهما العلمية والثقافية والمهنية.
فهكذا وصف العميد طه حسين قرينته سوزان قائلاً لها: ” بدونك أشعر أنني أعمى حقا ! “.
وهكذا مدح عبد الله الطيب زوجته الحاجة جريزلدا رحمها الله شعراً فخاطبها قائلاً لها:
آويتِني حيثُ لا قُربى ولا نسبٌ
إلا الوداد ُوحُبٌّ ليس بالواني
لولاكِ أنتِ لكانَ العيشُ أجمعهُ
سحابةٌ من حميمٍ آسنٍ آني
وقد كشفت السيدة جريزلدا في حوار تلفزيوني اجري معها بالخرطوم قبل سنوات قليلة من رحيلها في عام 2021م عن 96 عاما، عن أنها هي التي اقترحت على زوجها الراحل البروفيسور عبد الله الطيب ، ان يسعى إلى طه حسين بوصفه اشهر اديب عربي في زمانه وما وراءه، لكي يكتب له تقديما لكتابه المرشد إلى اشعار العرب وصناعتها، فاستجاب لمشورتها السديدة.
وبمثل ما يمكن ان نصف الدكتور طه حسين بانه كان مفتوناً بفرنسا او francophile كما يقال في الفرنسية، فانه يحق لنا ان نصف الدكتور عبد الله الطيب بانه قد كان يكن حباً وتقديرا جما للإنجليز بنفس القدر كذلك. وآية ذلك مدحه لهم بقوله:
ولا تلحينّ الانجليزَ فإنهم
على كِبْرهم كانوا كرام نِجارِ
ولقد كان يشاهد في شبابه والى ابان كهولته، وهو يلبس ” الشورت “، وينتعل الشبط الصندل بالجوارب، ويعتمر القبعات، وربما دخن الغليون على الطريقة الإنجليزية ايضا. وتلك جميعها لعمري ، هي من مظاهر الانجلوفيلية بلا ريب.
وكما تنضح ايام طه حسين باجواء الخصومات والعداوات والمشاكسات، خصوصا مع صنوف شيوخ الكتاتيب والأزهر ، فان حقيبة عبد الله الطيب لم تخلُ هي الأخرى عن أوراق مليئة بوقائع المعارك والعداوات والمناكفات ، بينه وبين من كان يصفهم بحساده وشانئيه، طوال مسيرته الفكرية والعلمية والمهنية.
و أخيراً، تشترك هاتان السيرتان الذاتيتان ، حتى في بعض الملامح ذات الصلة بالطرفة والفكاهة ، بما في ذلك تلك المرتبطة بذكريات ومباذل مرحلة الصبا والمراهقة للحلم. فلئن كان الدكتور طه حسين قد حدثنا في أيامه عن ” أبو طرطور ” الذي كان يطوف على مساكنيه في المنزل الذي كانوا يستأجرونه بالقرب من الجامع الأزهر إذ هم طلاب به، فان عبد الله الطيب قد حدثنا عن تلك الزائرة الليلية الغامضة، التي كان يسمع عنها من ابناء داخلية المدرسة ايضا ، وأبطأت عليه بعد أن تطلبها زماناً على ما يبدو، ولكنها زارته اخيرا فكتب يقول: وجاءت بنت إبليس والحمد لله !! 😇😇😇