مذكرات في الصحافة هي إسترجاع لعصر كامل قضيته في بهو مهنة القلم عاصرت فيه اخر فصل من فصول “صحافة أبخرةالرصاص” , وصحافة الرصاص لصحافي هذا الجيل هي بداية هذه المهنة في السودان عندما كانت الصحيفة تمر بمراحل عدة حتي تخرج من المطبعة , المرحلة الأولي هي إذابة الرصاص في فرن ماكينة “الليونوتايب” ليتحول الي حروف تجمع وتنضد في مستطيل اشبه بالإطار الذي هو في حجم صفحة الصحيفة لترص فيه المادة الصحفية خبرا, او مقالة وهي عملية حساسة ودقيقة كان يطلق علي من يقوم بها اسم “الموضب ” الذى تحول اسمه للمخرج حاليا وبالرغم من بدائية هذه الطريقة ,ولكنها كانت هي السائدة في العالم العربي والسودان ,وكان الصحافي يحتفل فرحا في اليوم الثاني بجهوده عندما يقلب الجريدة كأنما يهدهد طفلا صغيرا.
حرصت في هذه السيرة ان اتناول رموز صحفية بعينها لدورها وتأثيرهاعلي الحركة الصحفية ولذلك فأن سقطت اسماء من الذاكره فليعذرني القارىء لأنني لم اتعمد اهمالها ,ولكن لشقفي بشخصيات بعينها صنعت لهذه المهنة سيقان تقف عليها.
في خطوة ثورية اخري ومن اجل التجديد جاء احمد يوسف هاشم صاحب ابو الصحف صاحب ورئيس تحرير السودان الجديد جاء في الاربعينات يصحبه الفني محمدعثمان جودة باول جهاز “زونكغراف “في السودان ،واعتبر فى ذلك الوقت صيحة مدوية في عالم الصحافة ,والزونكغراف هو جهاز مربع يستخدم الضوء فيحول الصورة الفوتغرافية الي خطوط ثم الي صورة ,وبعد فترة ساد الزونكغراف الصحف الاخرى. ومن كثرة شهرة الزونكغراف صار الناس يضربون به المثل عندما يقولون فلان سجلوا ليهو كالامو بالزنكوغراف .
تلي ذلك تطور كبير اخر عندما استقدم بشير محمد سعيد اول مطبعة “اوفست” الي البلاد وكان بذلك رائد الطباعة الحديثة في السودان .
علي عكس صحافة اليوم كانت الصحافة في ذلك العصر تهتم بالأخبار العالمية ,وكانت كل صحيفة تخصص لها صفحة تتابع فيها النشاط السياسي في اوربا ,وامريكا والمنظومة الاشتراكية بقيادة الإتحاد السوفييتي, وكان محررو هذه الصفحة يستعينون بالراديو ويستخدمون المسجل لتفريغ الأخبار ثم صياغتها من جديد واشهر هؤلاء الراحل محمود بابكر جعفر فى صحيفة الصحافةالذى كان فى مدخل الدار يستخدم
في عام1661خرجت كل الصحف السودانية بخبر رئيسي لرائد الفضاء الروسى يورى جاجارين والذى كان اول انسان يدور حول الأرض ويعود سالما وذلك فى صراع الحرب الباردة بين الأتحاد السوفييتى و الولايات المتحدة الأمريكية فنفدت الصحف من الأسواق مما اضطر بعضها الي طباعة ملاحق جديدة وعندما دخلت جيوش حلف وارسو في ليلة 20 – 21 سبتمبر 1968الى المجر لوقف اصلاحات الرئيس الكسندر دوبشك المتمرد علي الإتحاد السوفيتى والمطالب بتغيير في النظام الشيوعي سارعت الصحافة السودانية الي تسجيل هذا الحدث وبالخط الآحمر في صفحاتها الأولي .
لم تكن الصحافة السودانية منغلقة علي محليتها كما نراها اليوم وهى ردة سببها ضعف التاهيل ومحدودية الثقافة السياسية كان صحافيو ذلك العصر علي درجة عالية من االوعى ,يتابعون الأحداث العالمية من مصادرها ويعلقون عليها فيصنعون بذلك رأيا عاما مستنيرا يجرى كل هذا بالراديو تؤخذ منه الأخبار مسجلة فيعاد تحريرها.
حتي خمسينات وستينات القرن الماض كانت وسائل المعرفة فى السودان هي الكتاب والمجلة والصحيفة بجانب الراديو واخيرا التلفاز ,وان كان الناس يفضلون القراءة علي المشاهدة, فالتفزيون والراديو كانا لسماع الأغاني والتمثيليات اكثر من سماع الأخبار. لم تكن هناك جامعات ولامعاهد للصحافة تعّلم الطلاب المهنة ,ولم يكن مطلوبا من الذي يطلب العمل في الصحافة سوي الموهبة والرغبة في ذلك ,وكانت الصحف نفسها هي المعاهد التي يتدرب فيها مستجدو العمل الصحفي يتدرجون من يوميات الشرطة يسجلون الجرائم والقضايا المثيرة وبعد ذلك ينتقلون للدوائر القضائية فيطورون مصادر اخبارهم من يوميات التحري الي القضاة ,وقضاة المحاكم العليا ووزراء العدل , وكذا كان البرلمان محطة مهمة للصحفيين الجدد حيث يسجلون كلمات النواب في إطار صراعات المعارضة والحكومة فتخرج من القاعة اخبارا ساخنة
كان الهاتف هو الوسيلة الوحيدة للإتصال بمصادر الأخبار, وكان كل وزير يريد ان يعكس نشاطات وزارته للراي العام ,ولايجد الصحفيون صعوبة في الإتصال بهم ويطلب كثير من الوزراء بعد اعطاء الصحفي الخبر ان يقرأه له بعد صياغته حتي يتأكد من سلامة الحديث الذي ادلي به.
علي صعيد القدرة المعرفية كان معظم رؤساء التحرير ذوي ثقافة رفيعة ودربة اكتسبوها من المثابرة في تحقيق التمّيز, يجيدون اللغة الإنجليزية قراءة وكتابة يديرون بها الحوارمع اي من كان من الرؤساء والمسئولين الأجانب ,علي سبيل المثال الصحفي المشهورعبد الله رجب رئيس تحرير صحيفة والذي تعلم اللغة الإنجليزية بمثابرته الخاصة ,ثم فضل بشير رئيس تحرير السودان الجديد المجيد للغة الإنجليزية وقليلا من الألمانية ,وعوض برير الصحافي الذكي اللماح المجيد للترجمة .
كان كل الصحفيين يجيدون اللغة الإنجليزية مخاطبة ,وترجمة عكس ما يحدث اليوم حيث القليل من الصحفيين يتحدثون هذه اللغة.