د.فضل الله على فضل الله له الرحمة والمغفرة، البدويُّ العالم كما سماه الحبيب المستشار البشرى عبدالحميد، وهو يرثيه في إحدى مقالاته. د. فضل الله من مدينة أم بادر مُحب لحياة البداوة، حائز على درجتي دكتوراه من أمريكا (العلوم السياسية / الإدارة العامة). كان يحاضرنا في ديوانيات الرياض بالمملكة العربية السعودية عن أنظمة الحكم والإدارة، مسمياً القبيلة بالملاذ الآمن. وكان يضع توصيفاً لذلك بأن القبيلة تصبح ملاذاً آمناً، عندما تضعف الدولة المركزية، ويتقلَّص ظلها وعدلُها، فيلجأ الفرد مظلوماً أو ظالماً طلباً للحماية أو النصرة من القبيلة. وهذا يعني تراجع وجود الدولة وإطلالة الفوضى، ونسأل الله الصلاح في واقعنا الحالي. ولكن تظل القبيلة ملاذاً آمناً إذا ما كان رأسها ناظراً ورث الحكمة من سابقيه وليست هي شر كما يصورها أُهلُ الحداثة المُضللة. نظام الإدارة الاهلية أو القيادة الأهلية للمجتمعات، قديم قدم المجتمعات. فالقيادة الأهلية تنشأ بتفويض مجتمع ما لإحدى قياداتها لقيادتها عند الحروب، أو التفاوض لمعالجة القضايا البينية مع قبائل الجوار، من نهب وقتل وودفع الديات لفك أسر المختطفين، وإنصاف المظلومين وجبر الضرر في مختلف التعديات. وقد انتبه مستعمرو بلادنا مبكراً ، من أتراك وإنجليز لذلك فعملوا على تقنين ما هو موجود من مسميات قبلية وتوظيفها لخدمة مصالحهم ( النظار والمكوك والسلاطين / الشرتاي/ الدملج / الدمنقاوي/ الفرشه وغيره من المسميات)، في ضبط الأمن الإجتماعي والإستقرار، ومن ثم تنظيم جمع الضرائب والجبايات وأشكال الإتاوات كافة. في زمن الإنجليز بدأ أغلب تكوينات الادارات الاهلية بالمسميات المعروفة في أوائل الثلاثينيات. هذه الأيام تشهد مدينة الرياض قدوم ووجود ناظر عموم البديرية بكردفان الزين ميرغني حسين زاكي الدين، وكذلك ناظر قبيلة الشويحات بالأُبيّض مصعب الشريف. والاثنان هما من رحم واحد ( أتحسس كثيراً من تعبير رحم واحد التي تكرهها الجماعة، لكن مضطر لاستخدامها). فهما توأم يتقاسمان الحياة حلوها ومرها في مدينة الأُبيّض وكردفان الكبرى. نظارة البديرية في كردفان معلم من معالم كردفان الاجتماعية. فمن حيث الجغرافيا فهي تعادل في مساحتها دول لها أعلام ترفرف في أروقة الأُمم المتحدة. ومن حيث الأتباع والرعايا، فهي كم سكاني متنوع، من داخل كردفان وخارجها، حيث يعيش بينهم قوميات من البجا والمحس والشوايقة، وكلهم أصحاب أراضٍ وأطيان. وقبيلة البديرية في مجملهاذات شوكة وغلبة تحتضن القعيد وتستضيفه بكرم، فيعيش مطمئناً مستقراً كامل الحقوق بلا إستضعاف. البديرية عنصر بشري منتج للصمغ العربي، والفول السوداني، والسمسم، والذرة بكل أنواعها محبون لصيد “الجربي”، وهو صيد الأرانب بطقوسها التي ينسجون حولها قصصاً تراثية وفكاهات لطيفة مع ذكاء البديرية وظرافتهم المعهودة في الرواية.
قبيلة البديرية تتمتع بعلاقات متسامحة مع جوارها القبلي من قبائل الحوازمة، والجوامعة، ودار حامد، والمجانين، والشنابلة، وحمر، والمسيرية، والنوبة العظام. آل زاكي الدين قيادات تضرب بجذورها في أعماق الأرض والتاريخ والزمان. فهم ركيزة المهدية بمجتمعها الذي يحب النظام والجدية والتسامح، وكان دورهم مشهوداً في محاربة الإستعمار. وفي العهد الوطني كان رمز كردفان الجد ميرغني حسين زاكي الدين من آباء الاستقلال. أما الناظر الزين ميرغني حسين زاكي الدين المحتفى به في الرياض. فقد تولى قيادة القبيلة بعد رحيل شقيقه الناظر عبد الجبار. وما فتئ يمشي بالحكمة والتسامح بين رعاياه بمختلف مكوناتهم المتنوعة، متمدداً في جيرانه في دار الريح وغربها في دار حمر، والمسيرية، وشرقها في بلاد أهلنا الجوامعة العزاز، وجنوباً عند الحوازمة والنوية. التسامح والتعايش هو المبدأ الأساسي الذي يحكم العلاقات بين المكوِّنات القبلية المختلفة. فالبديرية والشويحات يتمددون في مجتمع الحوازمة جنوباً ولهم عموديتان في إمارة عبدالعال، حيث الشويحات في كريكجه والسنجكاي. وعمودية الأخ العزيز محمد حمدان في مدينة الحمادي والمسنودة بشريحة البديرية الرُحّل من أولاد الحاج كمسريت ود ابو ذكّو، وإدريس الجراد، واولاد نورالدين النعمة والفضيل رأس المية وغيرهم كُثر، تحت رعاية وسلطة الحوازمة الإدارية، ويشاركون الحوازمة الظعن إلى جبال النوبة، حتى التيجان الخضراء في الحدود مع جنوب السودان. وللأسف ما أن نبتت في وجهنا سياسة الإنقاد ممثلة في وزارة التخطيط الاجتماعي، حتى فتتت هذه التكوينات الإجتماعية الراسخة، وأنشأت لها نظارات ضرار، وقد قاومتها نظارة البديرية بشموخ ووعي. نعم والصحيح أنَّ التكوينات الإجتماعية هي عمق كل شعب، ويمكن أن تمرض بفعل فاعل، لكنها لا تموت. وهكذا ظلت نظارة البديرية عصية مؤمنة بتاريخها السياسي، ومواقف قادتها التاريخيين الذي لم تبدله. ومن هذا المقام نحيي الزعيم الحبيب منصور حسين زاكي وعُوده الراكز في مدينة الابيض الجامعة، وكذلك نحيي كل أعيان المدينة ومكوناتها من المحس والدناقلة والجعليين والكوارته الذين كانت بصماتهم في بناء المدينة واضحة، وبخاصة في مجال التعليم الذي هو محل فخر نسيج الأُبيّض الإجتماعي. الناس تقول راهن على الفارس الذي يركب على الحصان، وليس الحصان.. الناظر الزين زاكي الدين فارس أصيل وقائد بالفطرة. قبل أعوام زاد التفلت بمدينة الابيض (9طويلة) وهو مفتعل وخاصة جنوبها ” الخرسان” حيث سُمي ذلك الحي بالمادة (130) لارتفاع حالات القتل. فارتفعت أصوات بعض المتطرفين في المدينة، مطالبة بإبعاد الرُحّل من أطراف المدينة، وأراضي البديرية، متهمين الحوازمة بالتفلت. لكن انُظر كيف عالج الناظر الزين ذلك. فقد حسم الامر قائلاً هناك حدود إدارية مع الحوازمة، ولكن ليس هناك حدود قبلية. فالحوازمة مواطنون في ديار البديرية، ولا يمكن أن ندين قبيلة بسوء سلوك بعض أفرادها. المجرم لا قبيلة له إتوني بالمجرمين أحاكمهم بالعرف والقانون، لكن لا مساس بعلاقاتننا بالحوازمة إلا بما يتفق والأعراف المعمول بها بيننا. ولي الحق في محاكمة اي متفلت من الحوازمة، كما يحق للناظر بقادي أن يحاكم البديرية الذين تحت إدارته إذا ما ارتكبوا أي جُرم، فلا ترحيل إلا وفقاً للعرف. فكان ذلك موقفاً حسم بعض الأصوات بالمنطق والحكمة. ولكم أن تتصوروا أثار ترحيل حوازمة من أراضي البديرية وترحيل البديرية من ديار الحوازمة . لقد شاركنا نحن رابطة الحوازمة في تكريم الناظرين الزين ميرغنى حسين زاكي الدين، وناظر الشويحات مصعب الشريف بدعوة كريمة من رابطة أبناء مدينة الابيض وضواحيها، لها التحية والاحترام. لقد سعدنا جداً بحضور بعض ممثلي الروابط من دار حامد وجوامعة والمجانين وجمعية أبناء جبال النوبة وغيرهم، لكن غاب هُدهُد المسيرية وحمر، الذين حبسهم حابس عن المشاركة. مؤكدين همتهم في زيارة الناظررين في مقار إقامتهما. حقيقة أن الحضور الكثيف في حفل التكريم وحسن التنظيم والترتيب والعشاء الفاخرالذي أعدته جمعية الاُبيّض وضواحيها، قد أعاد الثقة في نفوسنا نحن الكردفانيين، وأرسل رسالة إيجابية للناظر الزين عن ترابط أبناء كردفان، مؤكداً أنًّه رغم ما أصاب كردفان والسودان من هزَّات، لكن نقول ما زالت كردفان وأهلها بخير وإن أوتادها ثابتة بإذن الله بحكمائها ورموزها وأعيانها من أمثال الناظر الزين ميرغني حسين زاكي الدين والناظرمصعب الشريف ورصفائهم من النظار وإباء أهل كردفان وصبرهم.