الهندسة المعمارية في سواكن Architecture in Suakin Jacke Phillips جاكي فيليبس ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة لغالب ما جاء في مساهمة الباحثة جاكي فيليبس عن المعمار في سواكن نُشِرَتْ في “موسوعة تاريخ العلم والتقنية والطب في الثقافات غير الغربية Encyclopedia of the History of Science, Technology, and Medicine in Non – Western Cultures ” (الصفحات 451 – 457)، التي صدرت عن دار نشر اشبرينقر عام 2016م. وبالمقال عدد من الصور الفتوغرافية الملونة وباللونين الأبيض والأسود لمباني سواكن وما فيها من رواشين (1)، وبعض قطع الزينة (الديكور)، مع صورة في ديوان بيت خورشيد أفندي. تعمل جاكي فيليبس، المتخصصة في التاريخ الثقافي بقسم الآثار وتاريخ الفن، في مدرسة الدراسات الشرقية والافريقية التابع لجامعة لندن (https://shorturl.at/euMY8). وسبق لنا ترجمة أحد مقالتها عن سواكن (2). المترجم
تختلف الهندسة المعمارية التقليدية، التي طورتها المجتمعات مع مرور السنوات استجابةً للظروف البيئية وتوافر المواد، اختلافاً كبيراً من مكان إلى آخر. وتجمع الظروف الطبيعية في ساحل البحر الأحمر بين الملوحة المفرطة، وحرارة النهار الرطبة، وأشعة الشمس القوية، والليالي الباردة، والرياح القوية التي يمكن التنبؤ بها، والعواصف الرملية، والأمطار النادرة والتي عادةً ما تكون غزيرةً. وتُعرف الهندسة المعمارية الخاصة التي تم تطويرها استجابةً لهذه الظروف بشكل جماعي باسم طراز أو نمط البحر الأحمر (Red Sea Style)، والذي يختلف قليلاً من خلال المبادرات والموارد والظروف المحلية. وواحدة من أمثلة تلك المواقع النموذجية القليلة هي جزيرة – مدينة – ميناء سواكن على الساحل السوداني. ولا تزال مدينة جدة القديمة التي تم ترميمها بشكل كبير قائمة إلى حد كبير حتى اليوم، ولا تزال مأهولة بالسكان. غير أن هجر سواكن في أوائل القرن العشرين وما سُجِّلَ عنها بكثير من التفصيل، خاصة في أوائل خمسينيات القرن الماضي، يجعل ما تم بها من عمليات لصيانتها والحفاظ عليها كافٍ لتمثيل طراز معمارها على أفضل وجه. ومن المؤسف حقاً أن مبانيها قد انهارت الآن إلى حد كبير في غضون سنوات القرن الماضي أو نحو ذلك، في أعقاب هجرة سكان الجزيرة التدريجية إلى بورتسودان بعد عام 1909م. وعلى الرغم من ذلك، فما زالت بعض الدراسات الآثارية تجرى على مبانيها، ويتم ترميم بعض منها، مما يتيح مجالا للدراسة المباشرة للتقنيات المستخدمة، والحصول على لمحة عن تفاصيل وخبايا معمار الجزيرة. وكان قرينلو (Greenlaw) قد نشر الكثير من الكتابات والرسومات عن ذلك المعمار، وذاعت تلك الأعمال في الأوساط العامة وتم الاستشهاد بها عند المتخصصين، ولكن للأسف لم تؤكد عمليات الحفر والتنقيب كل ما ذهب إليه قرينلو فيما ذكره عن سواكن (2). ووضع سواكن الجغرافي في غاية الغرابة؛ فهي جزيرة مرجانية منخفضة (غدت الآن بيضاوية بشكل مصطنع) تقع في بحيرة عند نهاية قناة طويلة مفتوحة من البحر الأحمر عبر شعاب مرجانية سميكة. وبسبب مرور مياه نهير موسمي طويل من تلال البحر الأحمر إلى الداخل تتكون سنوياً رواسب رملية على السهل شبه الصحراوي خلف تلك الشعاب المرجانية. وتجعل مثل هذه الظروف المادية من سواكن مَرفَأ وميناءً مثالياً تقريباً، وهي السبب الرئيس في إطالة عمره. أما المباني والهياكل التي تم إعادة ترميزها بالتفصيل في الجزيرة و”القيف”، فقد كانت امتدادها الرئيسي، معروف منذ القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ولكن تم الكشف مؤخراً عن الأدلة الأثرية لأساساتها foundations ومبانيها السابقة. ويبلغ ارتفاع الجزيرة اليوم ما يزيد قليلاً عن 3.1 متراً فوق مستوى سطح البحر، في حين وجد احتلال القرن الحادي عشر أن ارتفاع الجزيرة كان فوق منسوب المياه الحالي مباشرةً، غير أن السجلات المكتوبة تشير إلى وجودها المستمر منذ قرن سابق على الأقل. وكشفت أقدم المستويات المحفورة بالقرب من وسط الجزيرة عن حفر لاحقة تشير إلى هياكل خشبية وأعمدة تَسْيِيج بِأَعْمِدَةٍ خَشَبِيَّةٍ (wooden post – and – wattle structures). ومن غير الممكن توقع أي ميزات تكيُّفيّة (adaptive) مما بقي من آثار، ولكن يمكن مقارنتها بأكواخ القصب والفروع التقليدية (العشش) التي لا تزال مستخدمةً اليوم في أماكن أخرى على طول الساحلين. وتواصل التشييد بتقنية البناء هذه بعد ظهور أقدم المباني الحجرية في مستويات أوائل القرن السادس عشر، والتي تزامنت بشكل عام مع وصول العثمانيين في عام 1517م. وتوضح خريطة لجزيرة سواكن نشرها جواو دي كاسترو (4) في عام 1541م أنها كانت مزدحمة بمبانٍ حجرية من طابقين أو ثلاثة بها أبراج طويلة تشبه المداخن، غالبًا ما يقال إنها مآذن مساجد. وهذه المباني الحجرية هي التي تمثل “طراز / نمط البحر الأحمر ” في سواكن. وكانت تلك المباني الحجرية حينها قد غدت أمرأً شائعاً في ذلك الزمن.
وشِيدَتْ المباني بسواكن بحيث تكون واجهاتها مقابلةً لشاطئ الجزيرة، كي تنعم بأكبر قدر ممكن من النسيم. ويتكون الخط الساحلي بأكمله من رصيف ممتد بشكل متكرر يتكون من كتل مرجانية في الغالب. وتتفرع الطرق والممرات من سوقها المركزي بطريقة عشوائية وغير منتظمة، مع وجود العديد من الساحات المفتوحة غير المنتظمة بسبب اختلاف ملكية العقارات. وتم تسجيل حوالي 279 عقاراً لا تزال مملوكة لأفراد إلى الآن. هذا بالإضافة إلى المباني الحكومية التي كان كل منها محاطاً بجدران تحدد مساحتها. ومنذ القرن التاسع عشر، وربما قبل ذلك، كانت المياه العذبة تُجْلَبُ من البر الرئيسي وتُخْزَنُ في صهاريج. وكانت هناك أيضاً أعمدة رأسية تتدلى من السقف إلى مستوى الأرض وأنابيب تحت الأرض تصرف مياه “الصرف الصحي” المنزلية. كما كان بمقدور السكان جمع مياه الأمطار التي تأتي عبر فتحات الصرف مع المزاريب الموجودة على الأسطح. ولم يتم بناء جسر يربط الجزيرة بالبر الرئيسي حتى عام 1878م. وكانت الغالبية العظمى من الإنشاءات المسجلة عبارة عن منازل خاصة ذات أحجام متفاوتة، مبنية على الطراز التركي أو العثماني، اتبعت المبادئ والمتطلبات الإسلامية العامة خاصة فيما يتعلق بالفصل الداخلي (بين الجنسين) والخصوصية. وكان الملاك يدمجون الساحات المفتوحة والفناءات والممرات الداخلية، التي كانت عادةً ما تحتوي على مساحات داخلية مكونة من طابقين إلى ثلاثة طوابق يمكن الوصول إليها عن طريق سلم واحد أو أكثر، يصل إلى السطح، والذي كان يُسْتَفَادُ منه أيضاً.
وتحتوي معظم الغرف الفردية على جدار واحد على الأقل مقابل مساحة غير مسقوفة. وكانت المخازن التجارية تُبنى من طابق أرضي واحد، وكانت تلك سمة ثابتة ومنتظمة في كل المؤسسات التجارية الكبيرة. ويمكن لتلك المخازن الموجودة على الخط الساحلي المباشر استلام البضائع مباشرة من السفن الراسية على الرصيف. وتعود معظم المباني التي تم إعادة ترميزها إلى ما بعد وصول الجيش المصري للبلاد عام 1821م، وشيوع البيروقراطية المصرية فيها. وقد تم نقل العديد من طُرُز المباني والمنازل الحكومية في القرن التاسع عشر لسواكن من مصر، غير أن المسجدين والمنشآت الجمركية ومحلات السوق المركزي فيها كانت إنشاءات تقليدية. وتؤكد دراسة بيت خورشيد أفندي على نقطة مفادها أن جميع المباني بالمدينة كان قد تم تعديلها وتوسيعها وترميمها بشكل مستمر على مدى الحياة بحسب ما تمليه الاحتياجات المتغيرة. ومن المباني التي سُجِّلَتْ باكراً وبصورة آثارية مؤكدة هو “بيت الباشا”، الذي كان أساسه يعود إلى القرن السادس عشر الميلادي. وليس بالإمكان حتى الآن تحديد تاريخ بنائه الأول بصورة دقيقة بناءً على المعايير المعمارية وحدها، ولا تواريخ التعديلات اللاحقة التي أُجْرِيَتْ عليه. فمبنى “المحافظة” الذي أقيم في القرن التاسع عشر، على سبيل المثال، كان يضم بيتاً قديما لا يعرف تاريخ إنشائه، وكانت هناك الكثير من الدلائل على أن العديد من التعديلات والترميمات المستمرة كانت قد أجريت عليه في غضون سنوات طويلة. ومع ذلك، فالاعتقاد السائد هو أن مسجدي المدينة كانا قد أقيما منذ تاريخ باكر، على الرغم من أن وجود مبنى مرجاني مجهول تم اكتشافه في خندق /أخدود محدود أسفل فناء مسجد الشافعي قد يشير إلى أن مبنى المسجد الحالي ربما كان قد سبقه مبنى آخر.
لقد كانت المباني بسواكن تشيد بالحجر الجيري المرجاني المسامي (الصخور المرجانية)، المستخرج من الشعاب المرجانية الموجودة في جنوب القناة. وتم تشكيل معظم تلك الصخور المرجانية تقريباً إلى كتل مماثلة الحجم مع ترك الجانب الخلفي فقط منها كما هي. وكان يتم قطع واستخدام المرجان من الشعاب المرجانية الداخلية (وهي حجارة ذات ملمس ناعم) يتم قطعها واستخدامها في بعض البنيات الهيكلية والمركزية مثل أغطية الأبواب (door hoods)، وفي الديكورات الخارجية المنحوتة. وكانت أساسات المباني بسواكن ضحلة بعض الشيء على الرغم من أنها كانت مستقرة وثابتة، وتتكون من صخور مرجانية كبيرة الحجم فوق حجر الأساس المرجاني. وكان يتم وضع الجدران في طبقات بحيث تكون الأسطح الرأسية الداخلية والخارجية مسطحةً، ثم يتم ملئها بالركام المرجاني. وتتم بعد ذلك تقويتها باستخدام أخشاب طويلة ودعامات متقاطعة متكاملة على مسافات محددة، وذلك في الدرج والأرضيات. وكان قصب النخيل عادة ما يُوضَعُ فوق أخشاب الأرضيات وفي الأسْقُف، على الرغم من أن الكتل الحجرية كانت تستخدم في الطابق الأرضي. وكان المِلاَط والطين الجيري، المكون في الغالب من مسحوق المرجان، يستخدمان في طلاء جميع أسطح الجدران، والهياكل الخشبية، وهذا من شأنه أن يعكس أشعة الشمس إلى الخارج، ويجعل المساحات الداخلية تبدو مضاءة وزاهية. وكانت الأخشاب الخارجية تُتْرَكُ دون أن تغطى بالملاط والحجر الجيري وذلك لتسهل عمليات صيانتها لاحقاً. كانت الجدران الداخلية تغطي بالأسمنت المخلوط بالرمل بكثافة، وكانت الغرف (خاصة الغرف العامة المهمة) في كثير من البيوت تزين بديكورات كثيرة ذات تصميمات هندسية منتظمة ومنحوتات بارزة. وكانت الزخارف البارزة المتقنة في ديوان “بيت خورشيد” مملوءة جزئياً بجِصّ ناعم وردي اللون يتباين مع ألوان جدران الديوان الأخرى. ويستخدم البعض الحصى الداكن المخلوط بالجص الرطب في تزيين وعمل ديكورات لبيوتهم، بينما يستخدم آخرون تصاميم مرسومة وملونة. وكان يتم تأطير منافذ وخزائن الجدران الداخلية (وبعضها كان مزوداً بأرفف متكاملة وأبواب إضافية) بالخشب أو بقطع رفيعة من المرجان، وطلاء معظمها. وربما كانت بعض الأعمال الخشبية الداخلية المكشوفة مثل الأبواب والنوافذ والمنافذ والأرفف تُغَطَّى بالرسومات أيضاً. وكانت مقاعد المصاطب الداخلية والخارجية أيضاً تتكامل مع بقية الأشياء بالدار.
لقد كانت عظمة تلك البيوت وأكثر مظاهرها تميزاً تتجلى في “الرواشين” التي تبرز نوافذ الشرفات، والتي تم تجميعها معاً بشكل معقد من الألواح الخشبية المنفصلة بشكل حصري تقريباً باستخدام مفاصل /وصلات نقر ولسان (mortise and tenon joints) مع أوتاد / خَوابِير خشبية بشكل بالغ التعقيد. وكانت تطلى تقليدياً باللونين الأخضر والأحمر، مع إضافة عناصر زخرفية مسطحة ذات شكل فردي إلى الأسطح الرأسية المسطحة الخارجية لخلق أنماط من الظلال، تبدو متناقضة تماماً مع جدران المباني البيضاء اللون. وتضم الروشان مساحات كبيرة من الأشرطة الخشبية الرقيقة المتداخلة ذات الأشكال الإبداعية والتي تنتج – عند تجميعها – الواحاً شبكية مفتوحة متقنة (شيش) ضمن إطار هيكلي واسع النطاق. وكانت لتلك الألواح العديد من الوظائف والفوائد، فهي تسمح بالتهوية وتبريد الهواء ودخول ضوء الشمس للغرف الداخلية؛ وفوق ذلك، فهي تضمن الخصوصية أيضاً؛ وتتيح فتح النوافذ عمودياً التي تتكون من إطارين من الألواح ذات الإطارات الزجاجية والمصاريع تحكماً أكبر في الرياح وأشعة الشمس. ولا توجد في الطوابق الأرضية مثل تلك النوافذ وذلك لأسباب أمنية. وتوفر الرواشين منصات جلوس داخلية عميقة للمناسبات الاجتماعية. وكانت للنوافذ الأصغر بالبيوت، وبدرجات متفاوتة، نفس ميزات الرواشين الوظيفية، وذلك بحسب أحجامها ومواقعها. وكانت أبسط وسائل التهوية الداخلية هي شبكات (grilles) تتكون من شيش مؤطر، كانت كل مكوناته تُصْنَعُ باليد. وأثبتت تحاليل علمية محدودة أن الأخشاب الصلبة المستخدمة في “التخشيب timbering” والمنحوتات في سواكن كانت من أخشاب أشجار محلية مثل السنط واللبخ؛ بينما كان خشب النخيل المجوف المحلي يُستعمل في صنع المزاريب (guttering). ولم تكن تستخدم بسواكن أي أخشاب مستوردة سوى أخشاب صلبة من شجرة شوريا (shorea) جُلبت من جنوب شرق آسيا لصناعة “شيش” الأبواب. ولم يُعْثَر بعد على أي دليل على استخدام خشب الساج (Java Teak) في مباني سواكن، على الرغم مما زُعِمَ في بعض الدراسات المنشورة من أنه كان بسواكن خشب الساج، الذي كان قد اُسْتُورِدَ من جزيرة جاوا (الأندونيسية).
وكانت الصيانة الدورية ضرورية لمكافحة العوامل الجوية وفقدان الطبقة الاسمنتية على الجدران، وارتفاع الرطوبة، خاصة بعد العواصف الممطرة. وتظهر حتى جميع الصور الفوتوغرافية التي تعود إلى القرن التاسع عشر التدهور الذي حاق بقواعد وأسافِل حتى المباني المأهولة التي كانت تُصَانُ بصورة جيدة. ويُعد عدم الصيانة أو قلتها بعد هجر الجزيرة هو السبب الرئيسي لانهيار المباني المستمر وحالتها المدمرة الحالية.
إحالات مرجعية 1/ الرواشين (ومفردها روشان أو روشن) هي النوافذ أو الشرفات البارزة المصنوعة من أجود ألواح الخشب، والتي تستخدم في تغطية النوافذ والفتحات الخارجية. وقيل إن صناعتها ظهرت في جدة، في عهد الدولة العباسية إلا أنها ازدهرت في العصر العثماني https://www.alriyadh.com/1980955 . 2/ تجد المقال المترجم في هذا الرابط https://shorturl.at/rHUY7 3/ نشر جان بيير قرينلو (1910 – ؟) في عام 1976م كتاباً بعنوان:
The Coral Buildings of Suakin: Islamic Architecture, Planning, Design and Domestic Arrangements in a Red Sea Port صدرت منه طبعة ثانية في عام 1995م، كتب مقدمتها منصور خالد، وتجدها في هذا الرابط https://shorturl.at/iFRT9 . وكان قرينلو هو أول رئيس للقسم العالي للفنون في المعهد الفني (يُسمى الآن كلية الفنون الجميلة والتطبيقية بجامعة السودان للعلوم والتكنلوجيا). 4/ جواو دي كاسترو هو مستكشف وعسكري برتغالي، ولد في 27 فبراير 1500م في لشبونة في البرتغال، وتوفي في 6 يونيو 1548م في غوا بالهند. https://shorturl.at/moFS6