إذا وضعنا الراهن السوداني بحيثياته ذات الصلة بأزمة الحرب الدائرة حاليا بالبلاد، فضلا عن الواقع السياسي بكل تقاطعاته و تفاعلاتة، إذا وضعنا هذا الراهن تحت مجهر التحليل السياسي العلمي Scientific Political Analysis، المجرد، غير المتحامل، و الهادف فحسب الى المصلحة الوطنية للبلاد، نجد أن هذا الراهن يمثل، في وجه من وجوهه، انعكاسا لفشل تجارب الحكم المختلفة بالبلاد، العسكرية منها على وجه الخصوص، و ذلك بدرجات متفاوتة. و لا شك في أن تراكمات هذا الفشل قد قادت الى الوضع الحالي الذي يمثل تحديا وجوديا Existential challenge لكيان الدولة السودانية الذي أصبح على المحك اكثر من اي وقت مضى. و تبعا لذلك فان التشخيص الصحيح للعلة السياسية السودانية يتمثل في أن الوطن يعاني من ازمة حكم حادة تحتاج لعلاج ناجع و عاجل قبل ان تتسبب مضاعفاتها في نهاية مفجعة لكيان الوطن.
و تأسيسا على ذلك فان نظام الحكم الديموقراطي و الذي يعد النظام الأمثل لحكم البلاد، الذي يتطلع اليه القطاع الأعرض من السودانيين، حسبما يدلل على ذلك واقع الحال، يمثل طوق النجاة للبلاد، بوصفه ترياقا ملائما للعلة انفة الذكر، و الاخذ بيد الوطن و انتشاله من وهدته الحالية. فنظام الحكم الديموقراطي يعد النظام الأنسب لحكم السودان لاعتبارات عدة منها التعددية الاثنية و الثقافية التي تسم واقع البلاد علاوة على الظلامات التاريخية التي ظلت تعاني منها شرائح مقدرة من الشعب منذ فجر الاستقلال حتى تاريخه، و خلاف ذلك مما لا يتسع المجال لحصره. ذلك ان الديموقراطية تعرف، وفقا لأحد تعريفاتها، بأنها (حكم الشعب بالشعب و للشعب). و ليس أدل على افضلية هذا النظام من ان الديموقراطية تعد، حسب التوصيف الوارد في الادبيات السياسية و الفكر الديموقراطي Democratic Ideology، أفضل نظم الحكم السيئة.
يقول السيد محمد أحمد المحجوب عليه الرحمة، في كتابه ( الديموقراطية في الميزان)، في اشارته الى كيفية مواجهة علل النظام الديموقراطي التي يفرزها التطبيق العملي لهذا النظام و التجريب من خلال سيرورة الحكم، يقول ما معناه أنه لا علاج للسلبيات و أوجه القصور التي تواجه الديموقراطية الا مزيد من الجرعات الديموقراطية. كما يقول الكاتب المصري خالد محمد خالد في كتابه (الديموقراطية ابدا)، في معرض دعوته الى مواجهة متاريس الديموقراطية و معوقاتها، “ان التاريخ ليلوح لنا بكلتا يديه و في يمينه تجربة و عن بساره تجربة و كلتاهما تؤكد ان الشعوب التي لا تدافع عن حرياتها تموت و تنقرض).
من جهة أخرى يؤكد واقع بلادنا، وفقا للراهن سالف الذكر، على وجود فئة تدعو الى الديموقراطية و اخرى تدعو الى الدكتاتورية ممثلة في عودة نظام الانقاذ عبر استنساخ نسخة جديدة منه ظاهرها التمسح بالديموقراطية من خلال الدعوة لانتخابات مبكرة و باطنها الدكتاتورية. و قد ظلت هذه الفئة، منذ اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة حتى تاريخه، تستميت في محاولة القفز على افرازات النظام البائد بكل ارثها الكارثي، ضاربة عرض الحائط بالثورة و أهدافها الوطنية النبيلة، من أجل عودة عقارب الساعة الى الوراء و المضي قدما في الاجهاز على ما تبقى من الوطن كيانا و مقدرات، و غير عابئة بالصحوة السياسية التي انتظمت المواطن و لا بوعيه بحقوقه و استعداده للذود عنها بكل ما يملك. ليس هذا فحسب بل أكدت هذه الفئة على عدم اكتراثها للمتغيرات الاقليمية و الدولية التي تجعل من الدكتاتورية سباحة عكس تيار (التطور) و الوعي الاممي العام.
و ليس ثمة من شك في أن عيب الانتخابات المبكرة التي ظل يدعو لها فلول النظام السابق و من لف لفهم يتمثل في محاولة اجراء هذه الانتخابات دون تهيئة الظروف لها من جهة تمهيد الطريق لها عبر تشذيب النتوءات القديمة الجديدة التي كانت تأتي بديموقراطية زائفة خلال فترة الانقاذ، لا تمت الى الديموقراطية الحقة بصلة.
و قد ظلت الفئة التي تدعو الى الدكتاتوربة عبر عودة النظام البائد تستميت في اختلاق الترهات و تزوير الحقائق و الافتئات على الحق دونما وازع ديني او اخلاقي، من اجل شيطنة قوي الثورة بأطيافها المختلفة، و ذلك لدواعي معلومة تتمثل في عودة الاسلامويين للحكم و هروبهم من المحاكمات التي تنتظرهم جراء ما ارتكبوه من جرائم خلال فترة حكمهم.
و مما يجدر ذكره ان لجنة ازالة التمكين و تفكيك نظام الثلاثين من يونيو لعبت دورا مقدرا و ملموسا في تسليط الأضواء الكاشفة على جرائم الانقاذ التي يشيب منها الولدان، ما جن معه جنون الاسلامويين و دفعهم للقيام بانقلاب ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١م. الذي افرز الحكومة الحالية و قاد الى الراهن الكارثي الحالي.
اما بالنسبة لدعاة الديموقراطية فيعولون على نهوض قوى الثورة من احزاب سياسية و قوى مدنية و لجان مقاومة و قوى مجتمعية أخرى للقيام بدورها في دعم و تحقيق الحكم الديموقراطي عبر مساعي جادة تستصحب اعمال النقد الذاتي Self -criticism الهادف للتعاطي الوطني المجرد سعيا وراء ترسيخ مباديء و قيم الحرية و الشفافية و المسؤولية، عبر نشاط سياسي يواكب ازمة الوطن و بسعى لاستعادة المسار الديموقراطي.
و بناء على ذلك فان أي عزف على وتر نقد قوى الثورة بصورة متحاملة او غرضية غير موضوعية، مع عدم ادراك الهدف الاساسي من ذلك، حسبما يرمي له دعاة الدكتاتورية (قطع الطريق على الديموقراطية)، مع التعامي عن تجربة الانقاذ بكل ظلالها السالبة و اثارها المدمرة التي لا زالت تؤثر على المشهد السياسي بالبلاد، لا يعدو، أي العزف المشار اليه، أن يكون محاولة لتقويض مساعي تحقيق الديموقراطية.
و تأسيسا على ما سبق فان دعم الديموقراطية يقتضي، فيما يقتضي، اسناد الحراك المدني الجاري، متكاملا مع اهداف و مساعي منبر جدة و مرتكزا على مساعي الاتحاد الافريقي و الايقاد اللتين يجب توحيد جهودهما مع حراك منبر جدة. و يتعين، هنا، الإشارة الى ضرورة فتح الباب على مصراعيه للنقد البناء للحراك المدني و تقويم النشاط الساعي الى الحكم الديموقراطي و ذلك.بعيدا عن أية مجاملات او تحامل او ركون لارث سياسي مقعد.
الجدير بالتأكيد أن قوى الثورة ليست مبراة من السلبيات بحسبان أن ما تقوم به هو جهد بشري و لا يحدث في فراغ بل في بيئة سياسية داخلية و خارجية معوقة او غير مواتية. لذا يتعين مراعاة ظروف و واقع هذه القوى، كما ان من الضروري بمكان، في ذات الوقت، أن تبذل هذه القوى المزيد من الجهد البناء عبر قيامها بكل ما يمكنها القيام به، من جهة الاستعداد لمقتضيات المرحلة. هذا أمر ضروري و مطلوب بشدة من اجل قيام هذه القوى باثبات ذاتها و تاكيد جديتها مع مواجهة التحديات الماثلة و من ثم المضي قدما في نشاطها الهادف الى تمهيد الطريق للديموقراطية. كما ان جهودها و فاعليتها مطلوبة من اجل دحض التهم .الجزافية التي يوجهها لها اعداء الديموقراطية من جهة انها تريد استبدال دكتاتورية بدكتاتورية أخرى او شيء من هذا القبيل، حتى تثبت انها جادة، على قدر المسؤولية الوطنية، مواكبة لتعقيدات الأزمة السياسية، و انها تدعو لديموقراطبة حقة وجبش وطني مهني واحد يمثل كل السودان، و تنحصر مهامه في الدفاع عن الوطن و حدوده و تحقيق أمنه.
و هنا يتعين إدراك حقيقة أن تأسيس نظام حكم، أي نظام حكم، يعد عملية شاقة و طويلة تحتاج لصبر و مواجهة لكل اشكال المعوقات الداخلية و الخارجية. كما أن من الضروري بمكان إدراك ان دعاة الدكتاتورية يعمدون، في محاولتهم قطع الطريق على الديموقراطية، الى التعويل على تناقضات و صراعات و تقاطعات القوي الحزبية و المدنية ليؤكدوا فشلها، ناسين أن الديموقراطية تعني، فيما تعني، ادارة الصراع Management of conflict بحسبان ان التباين في الرؤى و الأطروحات الفكرية و البرامج السياسية هو سمة العمل السياسي، و ان تلاقح الافكار هو الذي سيفضي، في نهاية المطاف، الى العبور الى ضفة الديموقراطية.
هنالك حاجة لمواكبة التحولات الاقليمية و الدولية المختلفة و ايقاع الأحداث في عالم مضطرب يعج بالأزمات الكائنة في رمال متحركة.
و تبعا لذلك فان تحديات الديموقراطية المتمثلة في بيئة داخلية معوقة تتمثل في دعاة الدكتاتورية و خلافه و بيئة خارجية غير مواتية، تحتاج الى إدراك مقتضيات المرحلة و العمل الجاد على ترجمة ذلك الى واقع يعمل على مقابلة هذه المقتضيات. و هذا يقتضي، دون ريب، قيام اقوى الثورة ممثلة في قحت و (تقدم) بحراك غير تقليدي، فاعل و ديناميكي Efficient & dynamic,، هادف، يضع حدا لتقليدية و قصور النشاط الحالي، برغم دوره المقدر.