يقول محمد جلال: “الجيش ده بكل علله وبكل مشاكله الآن الشعب السوداني ما عنده غيره، ريثما يتم تجنيد أي سوداني لدحر الجنجويد. وظللت منذ أن بدأت الحرب أتصل بكل الضباط الذين أعرفهم لكيما يمدوني بالسلاح.. وأقول عندما أضع قدما صناعية والحرب ما زالت مستمرة سأعود للسودان وأحمل السلاح دفاعا عن أرضي وعرضي ودفاعا عن الشعب”.
أولا، أنت لا تخوض حربا بجانب أي جيش، خل عنك جيش الكيزان ده، بحجة أننا “ما عندنا غيره”. هذه حجة ضعيفة لا يعتمد عليها إنسان ليغامر بحياته في حرب يكون فيها مجبرا لا بطل. فإن فعل ذلك فإنه يكون قد خاض حربا يعلم مسبقا أنها خاسرة وأن هزيمته فيها محققة.
وثانيا، إن كنت مستعدا لحمل السلاح دفاعا عن الأرض والعرض والشعب فلماذا لم تحمله طيلة الثلاثين عاما التي فرط فيها الكيزان في ثلث أرض البلاد، وثلث شعبه، وخاضوا في أعراض الشعب السوداني كله فاغتصبوا نساءه في كل بقعة من أرض البلاد، وما فظائع الجنوب ودارفور ببعيدة عن الأذهان، وما قرية تابت ببعيدة عن الأذهان، وما قضية صفية إسحق وغيرها المئات من الفتيات اللاتي اختطفهن ضباط الأمن واغتصبهن ببعيد عنا، وما تصريح البشير عن اغتصاب الدارفورية ببعيد عنا. فالاغتصاب عند الكيزان وظيفة في الدولة يا محمد جلال مثلها مثل بقية الوظائف يأخذ عليها صاحبها مرتباً يربي به عياله، وربما يحظى بدورات تدريبية محلية وخارجية ليحذقه، إلى أن يترَقَّى في درجات وظيفته، فيصبح رئيس مغتصبين، ومدرب مغتصبين، ثم في أخر عمره مغتصب بالمعاش. والسؤال الذي يحيرني هو هل أنت مستعد لتحمل السلاح وتحارب دفاعا عن “الأرض والعرض والشعب” من حيث المبدأ، كائن منِ كان منتهك الأرض والعرض والشعب، أم أنك انتقائي في هذا الأمر، تفعل ذلك ضد منتهك معين وتغض الطرف عن آخرين؟ فالكيزان ظلوا ينتهكون “الأرض والعرض والشعب” عقوداً متطاولة. وأنت تفخر بأنك لم تفر مع الفارين من جحيم الكيزان، ومع ذلك تعايشت مع كل ذلك، ولم تحمل السلاح ضدهم واخترت مثلنا الكفاح السلمي. فما الذي جد الآن غير هوية المنتهِك وهوية المنتهَك؟
حرب الكيزان وحرب الكرامة الوطنية
يصف الكيزان حربهم من أجل العودة للسلطة بأنها حرب “كرامة وطنية”. ونحن نعلم أنهم لكاذبون. فمتى عرف الكيزان للأوطان كرامة وللشعوب عزة؟ فالكيزان لا يعرفون معنى الكرامة، ولا معنى الوطن. إننا نعرف هذا الأمر معرفة يقينية لأنه مكتوب وموثق في أدبياتهم ومثبت في سلوكهم وسياساتهم. فهم أذلوا هذا الشعب ومرغوا كرامته في الوحل. أذلوه بإفقاره وبتجويعه، وبحرمانه من حقوقه كلها، وأذلوه بالقوانين القمعية، وأذلوه بجلد نسائه بالسياط على قارعة الطريق. وأذلوه بضرب شبابه وحلق شعور رؤوسهم في الطريق العام. ومن شدة احتقارهم للشعب فقد تعاملوا معه وكأنه شعب من العبيد، يمتلكوه ملك عين. فأعطوا نفسهم الحق في اصطياد شبابه من الشوارع والطرقات ليشحنوهم لمحرقة الحرب في الجنوب، تلك المحرقة التي أسموها جهادا زورا وبهتانا. وبعد كل تلك المحرقة التي استمرت أكثر من عقدين من الزمان أهلكوا فيها شباب البلد وقضوا على الأخضر واليابس رأيناهم يفصلون الجنوب ويخبرونا أنه كان عبئا كبيرا زال عن كاهلنا، وأننا بعد الانفصال أصبحنا عربا أنقياء ومسلمين خُلَّص، مما يؤهلنا لتطبيق شريعة “غير مدغمسة”. هؤلاء هم الكيزان الذين تريدنا أن نحارب إلى جانبهم في حربهم الغبية القذرة التي نعرف يقينا أن هدفها العودة للحكم وإخضاع هذا الشعب واستعباده إلى الأبد. فالشعوب لا تخوض حروبا تحت حكومات كهذه، وبجانب جيش كهذا إلا إذا كان شعوبا من الببغاوات عقلها في أذنيها، كما جاء في مسرحية أحمد شوقي عن شعب كليوبترا. فللحروب العادلة شروط عددناها في الحلقة الماضية من هذه السلسلة فارجع إليها.
أدلة محمد جلال على أن هذه الحرب ليست حرب الكيزان
يبرئ محمد جلال الكيزان عن تهمة إشعال الحرب اعتمادا على حجتين رئيسيتين. الأولى يسميها “عامل الضرورة” الذي جعل الحرب حتمية، وهو وجود قوتين عسكريتين متنافستين على السلطة. والثانية عدم وجود الكيزان أنفسهم كتنظيم مركزي. بالنسبة للحجة الأولى يقول محمد جلال: “تستند المراجعة المدنية إزاء هذه الحرب في عمدة معرفيتها على وقوع غالبية القوى المدنية كضحايا لفوبيا الكيزان وإصرارهم السايكوباتي لفزاعة أن الكيزان هم الجهة الخلفية التي عملت ولا تزال تعمل على تدوير هذه الحرب. أي دون النظر إلى عامل الضرورة الذي جعل اندلاعها أمرا حتميا بوجود قوتين عسكريتين مستقلتين عن بعضهما بعضا ومتنافستين على السلطة داخل مؤسسة الدولة الوطنية. انتهى.
إذن فالذي أشعل الحرب ليس الكيزان، كما يصر الكيزانوفوبك السايكوباتيون، بل الذي أشعلها هو “عامل الضرورة”. ولكي ما تصح هذه الحجة علينا أن نؤمن بأن “عامل الضرورة” هذا قد أوجد نفسه بنفسه، أو أوجدته الطبيعة، أو ربما أوجدته الإرادة الإلهية مثلما أوجدت الشمس والقمر قبل أن يوجد البشر. وبعبارة أخرى أنه لا أحد من البشر مسؤول عن إيجاده. هذه هي الطريقة الوحيدة التي تعفي الكيزان عن مسؤولية الحرب. أما إذا تساءلنا عمن الذي أوجد هاتين القوتين المستقلتين فالإجابة سوف تشير لمتهم واحد لا متهم سواه، ألا وهو هؤلاء الكيزان الذين أنشؤوا المليشيا لاستدامة حكمهم الكليبتوقراطي.
أما بشأن حجته الثانية لدحض آراء الكيزانوفوبك فيقول محمد جلال “الزعم بأن فلول الكيزان هم الذين أشعلوا فتيلة هذه الحرب، وأنهم الذين يديرون هذه الحرب من وراء البزات العسكرية، ينطوي على درجة من العِماية تجعل أصحابها يقعون تحت طائلة الغباء أو الاستغباء، والثاني أسوأ وأضلّ سبيلا. فهؤلاء، بالضبط مثل الجنجويد، قد انحجبت دونهم الحقائق الماثلة وهي تمشي على الأرض، ممثلةً في حقيقة يعلمها الكيزان جيدا قبل غيرهم ألا وهي أن الكيزان اليوم، ومنذ ما يزيد عن عشرين عاما، غير موجودين كتنظيم مركزي فاعل، هذا مع انتشارهم كالحُمر المستنفرة في جميع مؤسسات الدولة”.
هذه هي الحجة الثانية. فالكيزان غير موجودين كتنظيم مركزي فاعل. فإذا قلنا إن الكيزان أشعلوا الحرب فكأننا، في خلد محمد جلال، كتبنا المعادلة المنطقية التالية: أن (س) غير موجود. وأن (س) أشعل الحرب. فكيف لشيء غير موجود أن يشعل حربا. فإن صح قوله هذا يصح اتهامه لأصحاب هذا الرأي “بالعماية والغباء والاستغباء”. ولكن هل حقا أن الكيزان غير موجودين كتنظيم مركزي فاعل؟ وحتى إذا صح هذا الأمر، وهو قطعا غير صحيح، هل يمنعهم عدم وجود تنظيم مركزي فاعل من إشعال الحرب؟ وبعبارة أخرى هل هذا شرط لازم لقيام أي حرب لدرجة أنها تستحيل بدونه؟ ألا تستطيع قياداتهم التي شاهدناها وسمعناها تهدد بالحرب من اتخاذ قرارها؟ خصوصاً ومحمد جلال يقر بوجودهم “كالحمر المستنفرة” في جميع مؤسسات الدولة. و”الحمر المستنفرة” حمر خائفة في حالة استنفار وفَزِع وهروب كبير في جميع الاتجاهات. لذلك فهي الأقرب لإثارة الفوضى وإشعال الحرب لقلب المائدة على الجميع.
ومع ذلك فإن الزعم بأن الكيزان ليس لهم تنظيم مركزي، رغم وجود المؤتمر الوطني، قول فيه مغالطة واضحة. ويبدو أن محمد جلال يُضَيِّق من مفهوم الكوزنة بحيث يحصرها في الحركة الإسلامية التي حلَّها الترابي في بداية الإنقاذ ليتحلل من أطرها التنظيمية ليطلق يده في التحكم بالدولة. بيد أن الترابي عندما حَلَّ الحركة الإسلامية أنشأ المؤتمر الوطني بديلا عنها وجعله تنظيما مركزيا قابضا، وجعل الكيزان روحه وعقله والدينمو المحرك له. وأمر آخر مهم هو أن تنظيم الحركة الإسلامية أصبح هو الدولة ذاتها، أصبح هو المهيمن على الجيش والشرطة والأمن. وكذلك هو الدفاع الشعبي، والشرطة الشعبية، والأمن الشعبي، وهيئة علماء السودان، والخدمة المدنية، والسوق، والاقتصاد وكل شيء. وهذا ما يثبته محمد جلال بقوله إنهم منتشرون في جميع مؤسسات الدولة، بيد أنه ليس انتشارا وحسب، بل هيمنة وإمساك بمفاصل وهياكل تلك المؤسسات. وهذا كله يجعلهم المتحكمين في جميع القرارات بما فيها قرار الحرب هذا.
أما إذا كان محمد جلال يشير لواقع الانشقاقات التي ضربت التنظيم وأخرجت منه جماعة الإصلاح وسائحون وغيرها من المجموعات الكيزانية المتنافسة على السلطة فيما بينها، فإن هذا لا ينفي عدم وجود الكيزان كتنظيم مركزي، بالرغم عن كونه لم يعد موحدا كالماضي. بل على العكس فإنه يثبت أن جميع التنظيمات الخارجة من الرحم الكيزانية النَّتِنة تشترك مع المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية الأم في كونها تعتبر الدولة والشعب ملكها وإرثها وفيئها الذي أفاءه الله عليها. ولذلك فهي جميعا تتنافس على هذا الفيء. ومن أجل المحافظة على فيئهم ذلك أنشأوا المليشيات التي لم تكن موجودة، مثل المراحيل والجنجويد وحرس الحدود والدعم السريع، ومكنوها، وحموها، وعاقبوا كل من انتقدها، وارتكبوا معها كل الجرائم في الجنوب و النيل الأزرق وكردفان ودارفور، وصولا لمجزرة القيادة، وانقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر ٢٠٢١ ومقتلة الشباب والكنداكات التي أعقبته، إلى أن جاء الاتفاق الإطاري الذي شكل نقطة تحول كبرى في العلاقة بين الشريكين، وأبان طريقة تفكير كل منهما.
فقد تعامل الكيزان مع الاتفاق الإطاري تكتيكيا، لكسب الوقت ريثما ينقضون عليه، في حين رأي فيه قادة الدعم السريع مخرجا استراتيجيا لهم من ماضيهم الذي ظل يلاحقهم ويقض مضجعهم. وكذلك رأوا فيه مدخلا لتأمين مصالحهم في المستقبل.فمن الواضح أن الدعم السريع، بعد أن راكم كل تلك الثروات المليارية، أصبح هدفه هو غسل نفسه من وحل الماضي، وإعادة إنتاج نفسه عن طريق مواءمة مصالحه مع مصالح الشعب، في حين أبى الكيزان إلا الاستمرار فيما هم فيه من الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والغي الموفي بأهله على النار. فعلى الأقل أبدى الدعم السريع الرغبة في التطهر، صدقا أو كذبا، فطابق بين خطابه وخطاب الثوار، وصار يتملقهم، ويردد أنه معهم حتى وإن شتموه. أما الكيزان فهم لا يحبون أن يتطهروا. فمن شدة شراهتهم أرادوا لأنفسهم كل شيء وحرمان الشعب من أي شيء. فتراجعوا عن الإطاري في حين رفض الدعم السريع التراجع عنه معهم، فاعتبروه متمردا يجب القضاء عليه، وهذا هو سبب الحرب الذي لا ينكره إلا جَنِف. وخلاصة الأمر أن الكيزان موجودون كتنظيم مركزي، وهم الذين أنشأوا “عامل الضرورة”، وهم الذين أطلقوا الطلقة الأولى. فأين المفر من تحميلهم مسؤولية الحرب؟