تمهيد:
تشهد الحرب المستعرة في السودان بين الجيش والدعم السريع استعصاء طال أمده على المعالجات الاختيارية المقتصرة على المبادرات الثنائية المتمثلة في منبر جدة برعاية الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية، والمبادرات متعددة الأطراف المتمثلة في الاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (إيقاد) ودول الجوار. ولعل من أهم مسببات استمرار هذا الاستعصاء وتواصل الإحتراب المدمر وتوسيع نطاقه ليشمل عشر ولايات ويهدد أربع أخرى تمادي طرفي الصراع في التحكم في مصير السودان مستخفين بتبعاته الكارثية على الشعب السوداني. حيث أثبت انسداد الأفق العسكري في السودان منذ يوم 25 أكتوبر 2021، وانتهاءً بالحرب الطاحنة في أبريل 2023، فشل الحل العسكري في معالجة الأزمات السياسية في السودان.
ونظراً لأن المخاطر المطبقة بالبلاد لا تحتمل إضاعة الوقت في تبضُّع طرفي القتال في المبادرات الثنائية ومتعددة الأطراف وما يصاحب ذلك من اجترار الاتهامات العقيمة المتبادلة بين طرفي الصراع، فإن تحاشي سقوط السودان في حرب أهلية أشد دماراً وأبشع تقتيلا يستدعي مفارقة مربع العلاج الاختياري لمنبر جدة لمربع العلاج الضروري بتعجيل حمل طرفي الإحتراب حملاً لقبول الحوار الثنائي المباشر برعاية وقيادة إفريقية من الاتحاد الإفريقي عبر مجلس السلام والأمن التابع له (African Union Peace and Security Council-AUPSC)، ومنظمة إيقاد.
تبادل رعاية وقف إطلاق النار بين المبادرة الإفريقية ومنبر جدة
أقرت قمة إيقاد المنعقدة في جيبوتي في 9 ديسمبر 2023 التي شارك فيها إضافة إلى الدول الأعضاء ممثلون عن الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وبلدان عربية وغربية مقترح تشكيل آلية دولية موسعة تدعم الجهود الإفريقية لمتابعة وقف الحرب الدائرة بين الجيش والدعم السريع، واستعادة مسار التحول المدني في السودان. وأعلنت القمة دعمها للخريطة الأفريقية المقترحة لحل الازمة السودان التي تنطوي على الدمج بين رؤية منبر جدة ومقترحات الاتحاد الإفريقي و”ايقاد” ولكن بقيادة إفريقية للخطة تؤدي لوقف الحرب وإطلاق عملية سياسية تفضي لانتقال السلطة من العسكريين للمدنيين. ويتم ذلك عبر حوار سوداني شامل يؤدي إلى حل مستدام ويشارك فيه أصحاب المصلحة السودانيين، بما في ذلك الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، والمجموعات النسائية والشبابية، ولجان المقاومة، والنقابات العمالية، والجمعيات المهنية، والزعماء التقليديين، والأكاديميين.
وتستند خطة الحل الأفريقية التي حظيت بدعم أمريكي صريح على 6 نقاط أساسية تشمل:
• وقف إطلاق النار الدائم وتحويل الخرطوم لعاصمة منزوعة السلاح.
• إخراج قوات طرفي القتال إلى مراكز تجميع تبعد 50 كيلومتراً عن الخرطوم.
• نشر قوات أفريقية لحراسة المؤسسات الإستراتيجية في العاصمة.
• معالجة الأوضاع الإنسانية السيئة الناجمة عن الحرب.
• إشراك قوات الشرطة والأمن في عملية تأمين المرافق العامة.
• البدء في عملية سياسية لتسوية الأزمة بشكل نهائي.
وتجدر الإشارة إلى أن أبرز سمات خطة الحل الإفريقية أن خمس من نقاطها الست تركز على وقف إطلاق النار ونشر السلام والمحافظة عليه. ثم تأتي أخيراً النقطة السادسة المخصصة للبدء في العملية السياسية لتسوية الأزمة بشكل نهائي. ولعله من الضروري الوقوف عند هذه الخاصية للخطة الإفريقية، قبل القفز مباشرة للعملية السياسية التي يدعو الكثيرون للتعجيل بها، رغم عدم جدواها إذا لم تصمت البنادق بين المتقاتلين (Belligerents) بشكل مستدام. وهذا يؤكد صواب حصر الحوار في المرحلة المباشرة على طرفي القتال، دون سواهما. وعطفاً على التجارب الدولية الناجحة في الخروج من الصراع فإن التسرع في إقحام تعقيدات العملية السياسية أثناء جهود وقف القتال يشكل فائضاً عن الحاجة (Superfluous)، وربما يقود لتوسيع نطاق الصراع.
دور القوة الاحتياطية لشرق إفريقيا “إيساف”
أكد فشل منبر جدة في وقف مستدام لإطلاق النار أن كبح جماح المواجهات الدامية بين الجيش والدعم السريع يحتاج لراعٍ يستحوذ على قدرات قتالية ميدانية لبسط الأمن وفرضه بقوة عسكرية مدعومة من المجتمع الدولي للفصل بين المتحاربين، بحيث تساهم جوهرياً في تنفيذ هذه العملية “القوة الاحتياطية لشرق إفريقيا” (Eastern Africa Standby Force-EASF) التي تضم عناصر عسكرية وشرطية ومدنية. ويجدر بالذكر أن “إيساف” قد تشكلت بواسطة القمة الافتتاحية للاتحاد الإفريقي التي عقدت بمدينة ديربان في جنوب إفريقيا في يوليو 2002، وبموجب البروتوكول المتعلق بتأسيس مجلس السلام والأمن التابع للاتحاد الإفريقي (African Union Peace and Security Council-AUPSC). وقد تأسست “إيساف” كآلية إقليمية لتوفير القدرة على النشر السريع للقوات، وتنفيذ الانتشار الوقائي، والتدخل السريع ودعم السلام. وفي أبريل 2005 وُقِّعت مذكرة التفاهم، وعدلت في يناير 2011، لتحدد على نحو صريح أن “إيساف” هيئة تابعة لـ”القوة الاحتياطية الإفريقية” (African Standby Force – ASF). وحالياً تضم في عضويتها 10 دول أعضاء نشطة، تشمل: بوروندي، وجزر القمر، وجيبوتي، وإثيوبيا، وكينيا، ورواندا، وسيشيل، والصومال، والسودان، وأوغندا.
ويجدر بالذكر أن السودان ليس عضواً فاعلاً في “إيساف” فحسب، بل تولى قيادتها حيث شغل العميد ركن حينه علاء الدين عثمان ميرغني هذا المنصب خلال الفترة 2017-2020، وترقى لاحقاً لرتبة اللواء وشغل منصب مدير الإدارة العامة للعلاقات الدولية عام 2022. وتشير الدلائل إلى أن دخول قوات “إيساف” للسودان ليس جديداً حيث أجرت تلك القوات خلال قيادتها السودانية تمرين «سلام الشرق 2» الذي انطلق في عام 2017 بمنطقة جبيت بولاية البحر الأحمر. واشترك في هذا التمرين أكثر من ألف عنصر من الدول العشر الأعضاء، بمشاركة خبراء من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وقد نصت بروتوكولات إنشاء “إيساف” على التعاون مع الأمم المتحدة، ووكالاتها بما فيها مجلس الأمن، والمنظمات الدولية، والمنظمات الإقليمية الأخرى ذات الصلة، وكذلك مع السلطات الوطنية والمنظمات غير الحكومية، عند الحاجة. وبمجرد نشر قوة “إيساف” في أي دولة من الدول الأعضاء يتولى الاتحاد الأفريقي أو الأمم المتحدة مهمة السيطرة العملياتية عليها. وتعمل “إيساف” بشكل وثيق مع مختلف الشركاء الثنائيين ومتعددي الأطراف الذين يقدمون لها الدعم المالي واللوجستي والفني اللازم لإنجاز مهامها على الأصعدة الوطنية والإقليمية والدولية. ويشمل الشركاء الثنائيون الولايات المتحدة وفرنسا واليابان وألمانيا وبريطانيا وهولندا والدنمارك وفنلندا والنرويج والسويد. كما تتلقى “إيساف” مساعدات من مصادر متعددة الأطراف تشمل الأمم المتحدة وبرامج الأمم المتحدة الإنمائي والاتحاد الأوربي.
وفي إطار تعاون مجلس السلام والأمن التابع للاتحاد الإفريقي (المشرف على “إيساف”) مع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يعقد المجلسان اجتماعاً تشاورياً سنوياً، حيث انعقد الاجتماع السابع عشر بينهما في أديس أبابا يوم 6 أكتوبر 2023. وتمت فيه إحاطة وتأمين مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على خارطة طريق الاتحاد الأفريقي ومنظمة إيقاد لحل النزاع في السودان. وشدد الجانبان على أهمية مواصلة تعزيز التعاون والتنسيق بين جميع الجهود لضمان التماسك وأكدا أهمية تعاون الجهود الدولية لتعزيز السلام تحت رعاية الاتحاد الأفريقي والإيقاد.
وعطفاً على تجارب الأمم المتحدة الناجحة في العديد من الدول التي أفلحت في الخروج من الصراع (Post-conflict) فإن عدد ونوع الأفراد المنتشرين من قوات “إيساف” في عمليات حفظ السلام في السودان يؤثران طردياً على القدرة على ضمان استدامة السلام. فبزيادة عدد قوات “إيساف”، تتضاءل فرصة استئناف الإحتراب. ذلك أن فاعلية حفظ السلام في السودان تكمن في قدرة “إيساف” على ردع خارقي وقف إطلاق النار من خلال نشر قوات عسكرية قادرة على فرض السلام والدفاع عنه.
وعليه يجب تجهيز قوات “إيساف” بالأسلحة المتوسطة والثقيلة وتدريبها على المشاركة في القتال عند الضرورة، نظراً لطبيعة عملها في الخطوط الأمامية. ومن خلال القيام بذلك، تقلل تلك القوات الإقليمية من قدرة طرفي الصراع على إعادة الانخراط في القتال. وقياساً على حجم وتكوين بعثة العملية المشتركة بين الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة في دافور عام 2007 (UNAMID) التي بلغ عددها نحو 26000 فرد، فإن تكوين قوات “إيساف” في عام 2024 ربما يتطلب 40000-50000 فرد غالبيتهم من العسكريين والشرطة.
مدة الفترة الانتقالية وضرورة التسلسل في تنفيذ مراحلها ومهامها المسندة:
يقتضي فك شفرة الحرب المتسعة رقعتها في ولايات السودان إيلاء الأهمية اللازمة لمدة الفترة الانتقالية والتسلسل والتدرج في تنفيذ مهامها بدءً بوقف إطلاق النار، ووصولاً للعملية السياسية والتحول المدني الديمقراطي. ذلك أن ضخامة المهام المنوطة بهذه الفترة، وعلى رأسها تنفيذ العقد الاجتماعي بين سلطة الانتقال والشعب السوداني، تتطلب ألا تقل فترتها عن خمس سنوات تتيح الفرصة للتدرج والتسلسل في تنفيذ مراحلها المتعاقبة الثلاث، رغم ترابطها المنهجي وتداخلها الزمني. وتشمل هذه المراحل المتلاحقة:
- التدخل المباشر لقوات “إيساف” المدعومة من الآلية الدولية الموسعة لبسط الأمن (12 شهراً):
وتنطوي هذه المرحلة على أولويات فورية تشمل نشر قوات “إيساف” لحفظ السلام، ونزع السلاح وتسريح المقاتلين وإعادة إدماجهم، وإرساء العدالة الانتقالية، وإضفاء الطابع المهني على الجيش والشرطة، ووضع خطة شاملة لدمج قوات الدعم السريع والحركات المسلحة في الجيش السوداني الواحد الموحد، وإعادة تنظيم وبناء قدرات قوات الشرطة بمراعاة التوازن الإقليمي. وحماية البنية التحتية والمؤسسات والأفراد وتشمل حماية الممتلكات الخاصة الإنتاجية والسكنية، وتأمين البنية التحتية الحيوية بما في ذلك المطارات والطرق والجسور والمستشفيات والاتصالات والبنوك ومحطات الكهرباء والسدود ومصادر المياه وخطوط الأنابيب. كما تشمل الأولويات الفورية أيضاً السياسات الإنسانية المتمثلة في عودة وإعادة توطين اللاجئين والنازحين، وتوفير الأمن الغذائي، وإعادة توطين المقاتلين، ووضع تدابير لحل نزاعات الأراضي، واستعادة خدمات الصحة والتعليم. وفي إطار الحوكمة تشمل هذه المرحلة أيضاً تشكيل حكومة انتقالية من الخبرات المدنية المستقلة، وتعزيز المؤسسات الوطنية والمحلية، وتشكيل المجلس التشريعي، واعتماد الوثيقة الدستورية المعدلة بواسطة المجلس التشريعي، والشروع في الإعداد المبكر للانتخابات. وفي مجال الإصلاحات الاقتصادية تشمل هذه المرحلة مكافحة اقتصاد الظل بدمجه في الاقتصاد الرسمي، والسيطرة على التضخم الجامح، ومعالجة أزمة سعر الصرف، ومعالجة عجز الموازنة بتعبئة الإيرادات، واستعادة البنى التحتية الأساسية (المياه والكهرباء، والطرق، والموانئ، والمطارات). - ترسيخ التحول والانتقال (12-36 شهراً):
وتشمل هذه المرحلة أولويات قصيرة الأجل تتضمن الاستمرار في السياسات الأمنية وإصلاح قطاع الأمن (الجيش والشرطة والنظام القضائي والسجون)، وإزالة مخلفات الحرب. ومواصلة إعادة وتوطين اللاجئين والنازحين داخلياً، وتقديم الخدمات الأساسية، وتنفيذ الإصلاحات السياسية، ومواصلة الاستعداد لإجراء الانتخابات، ومكافحة الفساد، وإصلاح الخدمة المدنية، وعقد مؤتمر نظام الحكم لإصلاح اللامركزية والفدرالية المالية. وفي المجال الاقتصادي مواصلة الإصلاحات المالية وبرامج تعبئة الإيرادات، وتنفيذ الانفتاح التدريجي للاقتصاد، وخفض عجز الميزانية، وتوسيع البنية التحتية التنموية والخدمات الأساسية. - تمكين القدرات المحلية لتحقيق الاستدامة (36-60 شهراً).
وتنطوي هذه المرحلة على أولويات متوسطة المدى تشمل تراجع الانفاق العسكري والأمني، وتمكين القوات الأمنية الوطنية من شغل محل قوات “إيساف”، ومواصلة إصلاح القطاع الأمني، ومواصلة جهود مكافحة الفساد، والاستمرار في إصلاح الخدمة المدنية. وفي الإطار الاقتصادي مواصلة الإصلاحات الاقتصادية، وزيادة استثمارات القطاع الخاص الوطني والأجنبي، والاستعداد لاستكمال عضوية منظمة التجارة العالمية ومنظمات التجارة الحرة، وتهيئة السودان لانطلاق التنمية المستدامة بعد استكمال استحقاقات الفترة الانتقالية في تحقيق السلام والانتعاش الاقتصادي. وإجراء الانتخابات الحرة النزيهة واستكمال التحول الديمقراطي.
دور مراكز التميُّز ومؤسسات الفكر الوطنية
لقد فاقم الآثار الماحقة للإحتراب الذي فاق الثمانية أشهر تهميش دور لجان المقاومة والمجتمع المدني بقيادة مراكز التميُّز(Centers of Excellence) ومؤسسات الفكر الوطنية (Think Tanks) وحرمانهم من المشاركة الفاعلة في إنجاح المبادرات الثنائية ومتعددة الأطراف لوقف إطلاق النار وإعادة إعمار السودان. ذلك أن الفترة التي أعقبت نجاح الشعب في الإطاحة بالنظام السابق قد أكدت أن السياسة في المرحلة الانتقالية مـوضوع أخطـر بكثير من تركه للسياسيين والعسكريين، علماً أن العسكريين قد تحكموا في السودان أكثر من خمسة أضعاف ما حكمه السياسيون، حيث تحكم العسكريون لفترة تناهز الثمانية وخمسين سنة تمثل 82% من سنوات استقلال السودان الذي تشهد البلاد هذه الأيام الاحتفال الحزين بذكراه الثامنة والستين. حيث يمكن لهذه المراكز والمؤسسات بوصفها كيانات وطنية مستقلة المساعدة في تيسير الحوار الثنائي بين الجيش والدعم السريع الذي يرعاه الاتحاد الإفريقي ومنظمة إيقاد من منطلق مهني مجرد من الاعتبارات السياسية والجهوية. ذلك أن ثورة ديسمبر المجيدة قد عمَّقت شعوراً قومياً بضرورة اضطلاع الكيانات الوطنية المستقلة بلعب الدور الأبرز في الجهود الرامية لتحقيق أهداف الفترة الانتقالية لضمان الملكية الوطنية (National Ownership) للمخرجات. وحتى يتم تحقيق الإنبات المحلي (Homegrown) للمبادرة الإفريقية تبرز الضرورة لمشاركة هذه الكيانات في كافة مراحل تلك المبادرة. حيث إن الممارسات الجيدة في الدول النامية قد أكدت نجاح مراكز التميز ومؤسسات الفكر في حل العديد من الخلافات المستعصية في كل من نيجريا، وأفغانستان، ونيبال، وتونس. كما يمكن لهذه الكيانات الوطنية المستقلة حث جانبي الصراع للعمل سوياً بشكل أكثر كفاءة من خلال خلق التآزر وتوليد أفكار جديدة والتوصل إلى التوافق والتماسك المنشود وفق مقاربة تشاركية يساهم فيها الطرفان في إنجاح الفترة الانتقالية بتحقيق حكم مدني مكتمل يهيئ البيئة المناسبة للتحول الديمقراطي المنتظر دون إراقة المزيد من الدماء السودانية.
melshibly@hotmail.com