بعيداً عن سؤال مّن أطلق الرصاصة الأولى وبدأ الحرب؟، وقريباً من سؤال مّن الذي يتحلى بالمسئولية والشجاعة والإرادة في وقف الحرب واحلال السلام؟؛ ينتظر الشعب السوداني هذه المرة لقاء الجنرالين “البرهان وحميدتي” الذي أقرته قمة “ايقاد” الطارئة بجيبوتي التي عقدت في التاسع من ديسمبر الحالي، والتي انتزعت التزاماً من أطراف الحرب بعقد لقاء فوري بين قائدي القوات المسلحة والدعم السريع للاتفاق على وقف الأعمال العدائية، في الوقت الذي رحبت فيه قوات الدعم السـريع بالبيان الختامي للقمة؛ رفضته وزارة الخارجية السودانية واعتبرته لا يمثل ما خرجت به القمة وأنها غير معنية به، وأثير جدل واسع حول هذا اللقاء؛ في هذه الاثناء تصاعدت العمليات العسكرية وتوسعت الحرب بإستيلاء الدعم السـريع على ولاية الجزيرة؛ لتدخل الحرب مرحلة خطيرة؛ وسـط إحباط وسخط كبيرين على المستوى المحلي والدولي؛ بسبب تدهـور الأوضاع على كافة الاصعدة بصورة مزرية وتضاعفت المعاناة الإنسانية، وفتحت الباب أمام كافة السيناريوهات.
جاءت ردود الأفعال سريعة سيما ظهور الأمين العام للحركة الإسلامية الدكتور علي كرتي بتسجيل صوتي؛ يدعو فيه قيادة القوات المسلحة بكشف الحقائق للشعب، ويحذرها من مغبة إضاعة الفرص والإلتفاف التي حظيت به، ويذكرها بأن إستجابة المستنفرين ستكون شاهدة لها أو عليها، مما يؤكد ان الحركة الإسلامية متورطة في هذه الحرب من رأسها وحتى أخمص قدميها. وأعلنت قيادات وكوادر النظام البائد التعبئة الشاملة “المقاومة الشعبية المسلحة” بعد ان دب اليأس من القوات المسلحة وقيادتها (كما يئس الكفار من أصحاب القبور)، في المقابل دعت مكونات مجتمعية الي التعاون والتعايش مع الدعم السـريع في مناطق سيطرته، مما زاد حدة الاستقطاب السياسي والمجتمعي، الأمر الذي ينذر بإنتشار الفوضى وبداية الحرب الأهلية الشاملة.
بعد حالة من الصمت والإرتباك خرج القائد العام للقوات المسلحة بتصريحات توعد فيها القوى السياسية المدنية، وكشف عن تخاذل في معركة ود مدني تستحق المحاسبة، وأكد على استعداده للانخراط في مفاوضات عاجلة؛ مستبعد اي توقيع على إتفاق فيه إذلال للقوات المسلحة، مما يُعد موقف متناقض مع بيان وزارة الخارجية، التي تشير بعض التقارير الي أن وزيرها هو أيضاً تراجع وبعث برسالة للايقاد فحواها موافقة البرهان على لقاء حميدتي.
من جانبه؛ أكد الدعم السـريع بعد الاستيلاء على ولاية الجزيرة بأنه قد أبلغ الايقاد بموافقة حميدتي على اللقاء.
يأتي اللقاء المزمع في سياق إستمرار إنفتاح الدعم السـريع على ولايتي سنار والنيل الابيض، وإعلان تنظيمات النظام البائد التعبئة الشعبية المسلحة في ولايات القضـارف ونهر النيل وكسـلا، وهذا يشير بوضوح الي ان دخول الحرب مرحلة جديدة عنوانها التحشيد الاثني والاستقطاب السياسي ودق طبول الحرب الشاملة التي تهدد بقاء كيان الدولة.
ربما يمثل اللقاء فرصة لنزع فتيل الأزمة ووقف هذا التصعيد النوعي، ويعيد الاعتبار للحل السياسي، بالتأكيد هذه خطوة مهمة؛ يعول عليها في مخاطبة مواقف ومصالح أطراف الحرب بصورة مباشرة كمداخل لوقف إطلاق النار والعدائيات وترتيبات حفظ السلام، ومجابهة تداعيات الحرب، وتخفيف معاناة المواطنين بفتح ممرات آمنة تسمح بإنسياب المساعدات الإنسانية وتقديم الخدمات الصحية، وتفتح الباب أمام عملية سياسية تنهي الحرب وتخاطب جذور وقضايا الصراع وصنع السلام ، بمشاركة أصحاب المصلحة، وفي ذات الوقت هذه الخطوة محفوفة بمخاطر جمة وأسئلة عدة في مقدمتها:
هل يملك الجنرالان فعلاً الإرادة والشجاعة الكافية لوقف الحرب كفرصة حقيقية؟ أم مناورة سياسية للتخلص من الضغوط الدولية؟.
هل سوف تؤثر حدة الاستقطاب السياسي والمجتمعي الماثل وتربص النظام البائد الذي ابتدر حملة منظمة في مواجهة القائد العام للقوات المسلحة والسعي لعزله وأبعاده من المشهد لصالح قائد عام جديد؟.
هل يتمسك الطرفان بمواقفهما وشروطهما المسبقة؟ أم ينخرطا في اللقاء بعقل مفتوح وأجندة وطنية؟.
الي أي مدى يمكن أن يلتزم الطرفان بما يتم التوصل إليه من إتفاق؟.
الي أي مدى يستطيع الوسطاء الضغط على الطرفين لتقديم تنازلات تمكن من الوصول إلى إتفاق ملزم وفق ضمانات ومراقبة إقليمية ودولية؟.
هذه الأسئلة وغيرها؛ هي التي تحدد جدية أي طرف، وتحدد مسار اللقاء ونتائجه.
طبعاً؛ لم تكن هذه المرة الأولى التي يبدي فيها الطرفان رغبتهما في التفاوض، أو يتم التوصل فيها بالفعل إلى إتفاق جزئي، ولكن؛ دون إلتزام في التنفيذ، وسرعان ما تندلع المواجهات من جديد وبصورة أعنف؛ مما تعد جولات التفاوض ما هي إلا فرصة لالتقاط الانفاس وإعادة التموضع وتحسين الصورة الذهنية.
ربما هذه المرة تدفع مستجدات الوضع العملياتي، والضغوط الخارجية، ومشاركة قيادة الطرفان كمستوى أعلى في إتجاه الوصول الي إتفاق مرضي للطرفين.
قوات الدعم السريع التي ارتكبت جرائم بشعة في حق المواطنين، ودفعتهم للفرار من جحيم الحرب، واحتلت منازلهم، وزادت من معاناتهم، وعملت على توسيع نطاق الحرب، مطالبة بأن تتحمل مسؤولياتها الكاملة بالالتزام بتعهداتها في منبر جدة، وترجمة خطابها الداعي للديمقراطية الي موقف تفاوضي يضع معاناة الشعب في الأولوية وليس مجرد شعار ودعاية حربية.
القوات المسلحة التي قصفت المنازل، ودمرت البنية التحتية، وشردت المواطنين، وخضعت الي مشروع تنظيمات النظام البائد بالعودة الي الحكم من جديد على جماجم الأبرياء وأفواه البنادق، أن تدرك أنها إرتكبت جرائم في حق الشعب دفاعاً عن مشروع يعمل على تفكيكها، ويهدد السودان والمنطقة بأسرها، ومطالبة باتخاذ موقفاً حاسماً بالتخلي عن أجندة تنظيمات النظام البائد وخطاب الكراهية الذي يسمى زوراً بالكرامة.
إذا لم يتخذ قائدي القوات المسلحة والدعم قراراً حول هذه القضايا لصالح الشعب السوداني؛ حتماً سيفشل اللقاء وتضيع الفرصة وقد لا تتكرر، أما اذا تحلا بالشجاعة والمسئولية والإرادة وقدما مصلحة الشعب على ما سواها، حينها فقط؛ يمكن ان يمثل اللقاء بارقة أمل للشعب السوداني، وخطوة جبارة في طريق الحل السياسي الشامل. وفي هذا الصدد لابد ان تنظر القوى المدنية إلى هذا اللقاء بإيجابية، بدعم أي اتفاق ينهي هذه الحرب اللعينة، ويحقن الدماء، ويحفظ البلاد، ويعيد النازحين واللاجئين الي ديارهم، وينهي تعدد الجيوش، ويغلق أبواب التدخل الأجنبي. وإستكمال جهود وحدة المكون المدني وبناء جبهة واسعة تضم كل القوى الرافضة للحرب والتي تتبنى الفعل السياسي السلمي، وفق مشروع وطني يخاطب قضايا الحرب والسلام والإصلاح الأمني والعسكري والعدالة والمواطنة المتساوية.