في البدء نهنيء الشعب السوداني بالذكرى 68 لاستقلال السودان، و جاء الاستقلال بوعي النخب التي قادت النضال الوطني من أجل استقلال البلاد و استطاعت تحقيقه دون إراقة للدماء، مما يؤكد حسن إدارتها للصراع مع المستعمر، و في نفس الوقت نجحت مجهوداتها في تعبئة الجماهير و حشدها في صف وطني واحد، الأمر الذي جعلها تنجز مهمتها بجدارة. أن نخبة الاستقلال رغم محدودية التعليم الذي كان في تلك الفترة إلا أن النخبة السياسية استطاعت أن توسع معارفها و خبراتها و تثقيفها، و لكن رغبة الطائفية في التحكم على مفاصل السلطة، و سعيها الحثيث في توظف النخب السياسية و الفئة المثقفة من أجل تحقيق مصالح الطائفة، خلق العديد من العثرات في طريق سلطة ما بعد الاستقلال، و عندما عجزت الطائفية على فرض شروطها على العملية السياسية سلمت السلطة لقيادة الجيش، لكي ترتكب الطائفية أكبر خطأ تاريخي في مسيرة العمل السياسي، أن تدخل القوات المسلحة كضلع في مثلث غير متساوي الاضلاع هو الذي أضعف القوى السياسية طوال عقود الاستقلال.
كان الأمل: أن تأتي ثورة ديسمبر بعقليات ساسية جديدة، تتجاوز أخطاء الماضي. خاصة أن القوى الأيديولوجية في البلاد يسارا و يمينا نفذ كل منها انقلابا لم يحقق أن نوع من الاستقرار السياسي و الاجتماعي و لا نهضة الاقتصادية. كل سنين حكمها كان حكما شموليا أسس على نظام الحزب الواحد رغم رفعهما شعارات الديمقراطية. كان المتوقع أن تكون القوى السياسية قد اطلعت على تاريخ مسيرتها السياسي، و استوعبت دروسها و اسباب الإخفاق. و لكن؛ أن اعتماد النخب السياسية و أحزابها على المنهج التبريري جعلها غير قادرة على أن تستوعب دروس التاريخ، و تتعرف على الأخطاء التي أدت للفشل المتواصل. أن عزوف النخب السياسية و أيضا أحزابها عن المنهج النقدي هو الذي راكم الفشل في مسيرتها التاريخية. و أتضح إنها لا تقدم على المنهج النقدي بسبب تواضع قدراتها التي جاءت بها في مقدمة العمل السياسي بسبب طول فترة النظم الشمولية.
أن طول فترات النظم الشمولية قد ساهمت في إضعاف الأحزاب السياسية، و خاصة انقلابات القوى الأيديولوجية التي عملت على تفتيت الأحزاب و مطاردة قياداتهم، فتح الباب لصعود قيادات متواضعة لا تملك القدرات التي تساعدها على إدارة الأزمات، لذلك تجدها تلجأ إلي صراعات جانبية في حدود قدراتها المعرفية و الفكرية المحدودة، و تحشد لها الجماهير دون أهداف واضحة، و دون أي مشاريع سياسية واضحة، ألمر الذي جعل الساحة السياسية كلها تقع في دائرة الاستقطاب الحاد، صراع لا يعتمد على أي رؤى غير البحث عن المغانم. قيادات سياسية لا تستطيع أن تتجاوز محدودة تجاربها و ضعف قدراتها الفكرية و الثقافية. حتى الذين يحاولون أن يقدموا رؤية تجدهم يضعوا فيها شروط تعجيزية لا تجعلها محور حوار سياسي يفتح افاقا للحل. و الغريب أن ما وراء الشروط هي الغاية، الأمر الذي يجعل الأزمة تزداد يوما بعد يوم حتى وصلت الحرب… أن الحرب هي نهاية لفترة سياسية، و لا يمكن أن تعود كما كانت في السابق، لابد أن تحدث تغييرا جوهريا ليس فيما هو مطروح سياسي فقط، أيضا تغييرا في القيادات التي تسببت في الفشل.
أن دعوة الجماهير لنفسها في استنفار مسلح ضد ميليشيا الدعم السريع يعتبر خطوة وعي جديد أن تتحمل الجماهير مسئوليتها في حماية مصالحها، هذا العامل الجديد في العمل السياسي سوف يخلق وعيا جديدا في المجتمع، و أيضا الاستنفار سوف يخلق قيادات جديدة. إذا نجح الاستنفار و خرجت الجماهير زاحفة من أجل تنظيف البلاد من الميليشيا هي بداية الاستقلال الثاني للبلاد. أن الميليشيا المدعومة من قبل عدد من دول الجوار بتسهيل دخول المرتزقة و السلاح إلي جانب الدعم المتواصل من قبل دولة الأمارات للميليشيا، و هناك دول أمبريالية مشاركة وراء جدار مع هذه الدولة، الهدف محاولة لتقسيم السودان. و تمزيق نسيجه الاجتماعي. أن الميليشيا لا تمثل قبائل سودانية بعينها و لكنها تريد أن تحدث تغييرا ديمغرافيا في كل اقاليم السودان. لذلك الاستنفارة فرض عين على كل مواطن. و هو بمثابة الاستقلال الثاني للبلاد و تطهيرها من المرتزقة عابري الحدود.
أن فكرة الاستنفار ليست فكرة قوى سياسية بعينها كما يحاول أن يشيع البعض، و هم يعلمون أن الاستنفار أصبح دعوة شعبية انتظمت كل أقاليم البلاد، و هي فكرة تتجسد في التضحية الغالية بالنفس من أجل أن يظل الوطن موحدا ينعم شعبه وحده بثرواته و خيراته. أن الاستنفارة حالة صحوة و يقظة عقلية سوف تخلق واقعا سياسيا جديدا يؤسس على الحوار الوطني الذي يفضي للتوافق، و هو ثورة سوف تخلق ثقافة جديدة تتماشى مع البعد الثوري للجماهير،و شعارته الجديدة، هو شبيه بالثورة الفيتنامية التي حررت و وحدت فيتنام من النفوذ الامبريالي و اتباعه. أن حمل السلاح من أجل الوطن هو المشروع الجديد الذي تقدمه الأجيال الجديدة التي دعت إلى الاستنفار، هي فكرة نبعت من المجتمع و صيحات الشباب الذين وجدوا نفسهم يواجهون مجموعات تريد أن تنهب ثرواتهم و ممتلكاتهم و تغتصب نسائهم، فتخلقت الفكرة وتحولت من شعار إلي واقع. فكرة تريد أن تعيد للاستقلال رموزه و إشاراته و إحأته التي بدأ بها. عندما كان الاستقلال ليس يوم عطلة في البلاد بل كان يوم تنافس بين جميع المداس في كل النشاطات الرياضية و الثقافية، و تقدم فيه الدولة العديد من الجوائز للشباب، يوم الاستقلال كانت الميادين في كل الأحياء في العاصمة و الأقاليم تحتفل بالاستقلال بالغناء و الرقصات الشعبية كان له طعما خاصا، و لكن النظم الشمولية جاءت و اضعفت يوم الاستقلال و استبدلته بيوم الانقلاب، أضعفت معه الحث الوطني و الثقافة الوطنية، لآن التنافس نفسه الذي كان في المدارس يعلم الناس القبول بالهزيمة و الفرح بالنصر و الكل يقبل بعضهم البعض كانت ثقافة تراجعت بسبب التنافس الأيديولوجي السالب.
أن الاستنفار يجب أن يغير الواقع بكل تناقضاته و سلوكه، أن الوقوف في صف واحد في معركة الاستقلال الثاني سوف تخلق ثقافة الإيثار ” و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة” هي الثقافة التي تشكل قاعدة الأخلاق في المجتمع و التراضي و المحبة بين أبناء الوطن الواحد. أن تبرعات المقتدرين؛ تؤكد أن حالة من الصحوة الوطنية بدأت تنتظم رغم شدة المعاناة، و هي الفرج الغريب على الناس. نسأل الله حسن البصيرة.
zainsalih@hotmail.com