لم يكن جديد الحرب الدائرة في السودان على مدى تسعة أشهر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ منتصف ابريل الماضي يحمل جديداً أكثر من تداعياتها الكارثية من انتهاكات لحقوق الإنسان وتدهور مريع في كافة مستويات الحياة. وإن يكن جديدها سقوط المدن والولايات والحاميات العسكرية بيد قوات الدعم السريع على التوالي. وهو وضع بكل المقاييس العسكرية والسياسية يعد تطوراً على صعيد الحرب ومسارها نحو هدفها المجهول أو العبثي بالتوصيف السائد لها. وهذا التطور الدرامي للحرب وما حققته قوات الدعم السريع من حربها الخاطفة Blitzkrieg وسيطرتها على رقعة جغرافية هائلة مع تراجع وانسحاب لقوات الجيش السوداني الذي اثار الكثير من التساؤلات أكثر من حدة المعاركة نفسها؛ قد خلق وضعاً يخشى الجميع تصوره أو مجابهة حقائقه بما يحمله من قادم يصعب التنبؤ به أو قراءته على ضوء ما يجري من فظائع.
فإذا كان المنحى الذي ستتخذه هذه الحرب تفاوضاً وقتالاً على الأرض فإن الوضع الداخلي لن يعود كما عهده السودانيون من دولة كانت وفق تعريفها التعميمي تتعدد وتتنوع مكوناتها المنقسمة. والأهم بالطبع رمزيتها المعنوية وما شكلته في وجدان السودانيين بكل ظلاماتها للبعض منهم، وهذا التحول الخطير ناتج عن تداعي للأزمات لم يتوقف منذ 56 تاريخ استقلال الدولة السودانية. وبغياب الدولة وجيشها لجأت الأطراف المتشددة في استمرار الحرب في خطوة ميكافيلية إلى التحشييد الشعبي بالدعوة إلى المقاومة الشعبية المسلحة على خطورة ما يقوم عليه من استدعاء جهوي وقبلي غير محسوب يعرض المجموعات المحشودة (المستنفرة) لمواجهة غير متكافئة في ظل مناخ تملؤه الكراهية والخطابات العنصرية. وبعد أن تحول الجيش الوطني إلى مليشيا في وجود مليشيات موازية باتت السمة الأبرز للممارسة السياسية مما أضعف وجود الجيش كقوة وحيدة للدفاع والحماية والهجوم.
إن مأزق الحرب التي تورطت فيها الأطراف المتقاتلة وكان من نتائجها من بين عدة نتائج أخرى غياب آفاق الحلول فإن أي محاولة للتفكير في ضبطها أو التحكم بمسارها وإنهائها يتقضى مراعاة المصلحة الوطنية وليس باستمرار موجة العنف والتدمير على الطريقة التي تصر عليها أطراف الصراع. وهكذا أغرق العسكريون والساسة السودانيون بلادهم في مأزق دموي مهما حاولوا تفسيره أو دواعي تبريره. ولم تعد بحال البدايات هي البدايات حيث بداية الانفجار الكبير كفيلة بتفسير ما وصلت اليه البلاد من مأساة إنسانية تجاوزت في بشاعتها كل حدود المعقول.
وإذا كانت آمال الحلول قد تعلقت بالمفاوضات أو المبادرات الإقليمية منها والدولية، فإن مسارها يبتعد كل يوم على ما يجري على الأرض. ومع التطورات التي أعقبت الأحداث الأخيرة من التمدد المباغت لقوات الدعم السريع وظهور قائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) بالصورة الدرامية وتشدد معسكر قائد الجيش الفريق البرهان ومن ورائه حلفائه من الإسلاميين ومن يعرفوا بفلول النظام السابق وتراجع الأدوار الإقليمية الفاعلة في تسوية الصراع كمنبر جدة بالرعاية الأميركية السعودية، تكون الأزمة السودان قد اقتربت كثيراً من مرحلة المنطقة المظلمة.
أدان مؤخراً وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن بارتكاب جرائم ضد الإنسانية داعياً في سياق الإدانة الأميركية الأطراف السودانية إلى ومؤكدا على موقف بلاده من دعم السودان في الانتقال الديمقراطي. ويعد هذا التصريح على مستوى وزير الخارجية الأميركي حجم الموقف الذي وصلت إليه الأمور في السودان. وفي حين أن تراجع الدور الأميركي أو ما بدا تراجعاً من مشهد الأزمة السودانية وتفاعل المنظمات الإقليمية من قبل دول دول منظمة الإيغاد يوغندا واثيوبيا وجيبوتي يؤشر إلى أن الأزمة السودانية ماضية باتجاه التصعيد، إذ أن محاولات جمع قادة الطرفين التي تأجلت مراراً وطالت الشكوك الجدوى من انعقادها تحت رعاية المنظمة الإقليمية فمن المنتظر أن تحدث اختراقاً في المحنة السودانية على تضاؤل الآمال.
ومع بروز هذه الصورة القاتمة هل يعلق السياسيون السودانيون آمالهم في الحل الخارجي بالتدخل المباشر من دولٍ محايدة إن وجدت أو تفويض دولي لوضع حدٍ لمحرقة الحرب المستمرة؟ وكما بدا فإن طرفي الصراع قد دخلا إلى مرحلة مساومات تستند إلى ما رسمه الصراع الدامي على الأرض خاصة من قبل قوات الدعم السريع بسيطرتها الكبيرة على أجزاء رقعة جغرافية واسعة فرضت فيها سيطرتها العسكرية دون ملامح واضحة لكيفية إدارة هذه المناطق في ظل غياب واضح لأي شرعية سياسية وإدارية لدولة قائمة.
وما أحدثته الحرب على صعيد التحولات الاجتماعية والكيانات السياسية سيعيد تشكيل السودان، وهو ما يخشاه السودانيون أن يتأسس تشكيل ما بعد الحرب على ما تبثه خطابات الكراهية والجهوية المتصاعدة، ويفقد بالتالي السودان ليس بتكوينه التاريخي فقط ولكن قد تنتج نظماً سياسية أشد عدائية. ولأن هذا الكيانات العضوية المرغوب فيها ستعيد حمية القبلية التي خفضت من وتيرتها الدولة القومية إلى الوجود بنظمها البالية التي كان قد تخطاها السودانيون في تنظيمهم السياسي منذ أمد بعيد، فبات المستقبل أكثر قلقاً من حاضر الحرب نفسها.
ولعل الأكثر اثارة في يوميات الأزمة السودانيون في الأسابيع المنصرمة الظهور المفاجئ لقائد قوات الدعم السريع حميدتي في دول الجوار الافريقي وما أحدثه من بلبلة بعد غياب طويل اثار كل التكهنات بشأن حقيقتيه وجوده البيولوجية. ولكن يبقى اهم اختراقٍ بعد مبادرة الإيغاد لجمع قائدي طرفي الصراع في قمة استثنائية، ما توصلت إليه تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) برئاسة رئيس الوزراء السابق الدكتور عبد الله حمدوك، وقوات الدعم السريع على اتفاق (إعلان اديس ابابا) بوقف العدائيات ويسمح بدخول المساعدات للمدنيين وغيرها من تعهدات عادة ما ترد في نصوص الاتفاقيات بين الأطراف السودانية المتصارعة. ولكن هذا الإعلان الذي يرغب طرفاه أن يكون خريطة طريق لحل الأزمة السودانية عن طريق التفاوض ربما يشكل ابداء النوايا الحسنة أكثر منه اتفاقٍ قابلٍ للتنفيذ، فلا يزال طرف الصراع الآخر الجيش السوداني أو مجلس السيادة برئاسة الفريق البرهان ممثل الدولة القائمة بعيداً من التوصل إلى أي اتفاق أو راغباً في سلام بشروط الدعم السريع بما يواجه من ضغط داخلي أو اجندة خفية ترفض أي حوارٍ في ظل الواقع الذي شكلته قوات الدعم السريع على أرض الواقع. أما ما تبقى من بنود بيان الإعلان المتعلقة بإعادة تأسيس الدولة والمواطنة ونظام الحكم والاقتصاد فتبدو إنها من أدبيات الصياغات القانونية والدستورية أكثر منها حلول واقعية تستجيب لضرورات الواقع أكثر من أماني الساسة.
وبهذا تكون الحرب قد خلقت مأزقاً عسكرياً وسياسياً لا يملك طرفا الصراع مخرجاً أمام أهوال نتائجها الكارثية. فالموقف الداخلي بفعل تجدد وحشية الحرب قد بات خارج السيطرة وأوشكت الدولة السودانية على الاختفاء من الخارطة الجغرافية للعالم. وأمام حالة الانكار لمن يقودون الحرب هرباً من مسؤولية أخلاقية وتاريخية فالحل الوحيد أن تترك فوضى الحرب تعيد تشكيل السودان بعيداً عن شعارات الساسة وأمانيهم الساذجة التي حملتهم على إمكانية اشعال الحرب والتحكم بمسارها. ومما نتج عن هذا المأزق أيضاً كيفية التوصل إلى سلام بما انه غاية يلزم التوصل اليها إرادة سياسية واخلاقية ليس بالضرورة أن تكون إحدى وسائلها الحرب.
nassyid@gmail.com