تورونتو، 8 يناير 2024
في هذا المقال المُقتضب أوجه رسالةً مفتوحةً إلى صديقي د. عبد الله حمدوك رئيس الوزراء السابق ورئيس تنسبقية القوى المدنية الديمقراطية (تقدُم) على خلفيةِ ما دار بيننا من حوارٍ مُمتدٍ حول الشأن الوطني السوداني، خاصةً قضية الحرب والسلام، ونقل هذا الحوار إلى الفضاءِ العام بما يُسهم في اجتراحِ الحلول للأزمة الماثِلة حتى ينعمُ أهلنا بسلامٍ مُستدامٍ ئُخرج بلادنا من هذا النفق المظلم.
عزيزي حمدوك
كنا قد انخرطنا خلال الأسابيع الماضية، عبر التواصل الأسفيري، في نقاشات عميقة حول كيفيه إنهاء الحرب بتحقيق هدف تكوين الجيش الواحد ذو القيادة الموحدة وفق رؤية تنهض على الحوار حول قضايا تأسيس الدولة السودانية، وتجاوز الانشغال فقط بالصراع على سلطة الانتقال مما أقعد بسيرورة بناء الدولة وأعاق أي تحول ديمقراطي منشود، مستلهمينَ عِبرةَ ثلاثة فترات انتقال فى تاريخنا المعاصر اِنْتَهت بالفشلِ إضافةً للفترة الانتقالية الأخيرة (2005-2011) التى أفضت لاستقلال الجنوب ثم الفشلَ فى قيامِ دولتين قابلتين للحياة والنهوض. ذلك، مع التأكيد على أن تشارك كافة القوى السياسية والمجتمعية والأهلية في هذه العملية السياسية التأسيسة دون اقصاء، بإستثناء المؤتمر الوطني وهو الحزب الحاكم لنظامٍ شموليٍ أسقطته ثورة ديسمبر، وكل من أجرم وأفسد في حق الشعب السوداني. وبذلك نحقق التحول من الشرعية الثورية إلى الشرعية الإنتخابية الدستورية من خلال الشرعية التوافقية خلال الفترة التأسيسية.
واتفقنا أنه بالرغم من هذا التحدي، لابد من مواصلة ما تبذله من جهود لجمع الفرقاء والخصماء، وأنّ الكرة في ملعبك طالما توفرت لك الفرصة وأنت تترأس “تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية تقدم“، ولا ترغب إطلاقاً في المشاركة في أي سلطةٍ مُقبلة. وأنه من المهم ان تُدرك تقدم، وقوى المجلس المركزي، أنها لا تملِكُ شرعية تمثيل الشعب السوداني بأي حال من الأحوال. فأنتّ قبلت التكليف برئاسة التنسيقية بعد حوار طويل مع مكوناتها، بل وصارحتهم بأنه بالرغم من أنّ تقدم تمثل خطوة جيدة للأمام إلاّ أنّها لا تعكس وجه السودان مما يستدعي الصبر والمرونة للوصول إلى الآخرين. وبذلك، شرعت فعلياً، حتى قبل إنتهاء الاجتماع في أديس أبابا، في اللقاء بقوى أخرى خارج نطاق تقدم، فمثلا التقيت بالقائدين مني أركو مناوي وعبد الواحد محمد نور، وبالسيد جعفر الميرغني في سبيل تحقيق أكبر قدرٍ من التوافق. وذكرت أنك قلت لهم، على حد تعبيرك “إنو مافي زول طالب منكم تجوا تنضموا إلى تقدم ولا أن تكونوا تمومة جرتق، فخلونا نشتغل كلنا بمرونة ومن خلال قنوات متوازية parallel channels عشان في النهايةto converge ، والconvergence ده بتم عن طريق هيئة قومية لقضايا التأسيس، فدعونا نؤجل الخلافات مهما كانت ونتفق على حل مشكلة البلد ونترك الصراع السياسي للانتخابات، وده كله ما بحصل إلاّ بتوافقٍ عريضٍ، فأنت إذا أقصيتّ أيِ مجموعةٍ مهما كانت صغيرة في النهاية سيتحولوا إلى spoilers”
وأيضاً في هذا السياق، اتفقت معي على اللقاء بالقائد العام للجيش (وأنك أصلاً على تواصلٍ معه عبر من يمثله proxies)) وبقائد الدعم السريع، إن تيسر ذلك (في ظل ما كان يروج من شائعاتٍ حول وفاته) للجلوس سوياً لبحث أمرِ وقف إطلاق النار، بما يسمح بتوصيل المساعدات الإنسانية، والتوافق على الترتيبات الأمنية المُفضية إلى تكوينِ الجيش الواحد ذى القيادة الموحدة، بما يُمهد للشروع في عملية سياسية تأسبسية . ذلك خاصةً، وأنك قد أجريت اتصالاً هاتفيا معهما في عشية اندلاع الحرب طالبتهما فيه بتجاوز الخلافات بينهما ومراعاة مصلحة البلاد.
خلصنا إلى أنه من المهم المواصلة في بذل كل جهودنا في كيفية تكوين الجمعية الوطنية أو القومية لقضايا التأسيس، وبحدِ تعبيرك، “أن نعمل ما بوسعنا حتى لا تضيع منا هذه الفكرة لأنها تمثل فرصة تاريخية، فلو أنّ الحربَ مُدمرةٌ لكنها خلقت فرصة لمعالجة مشاكلنا التي فشلنا في حلها لأكثر من 60 عاماً. ولكي لا نكرر هذا الفشل، نحتاج إلى أن نتكلم مع كل الأطراف، وتشكيل هذه الهيئة القومية لقضايا التأسيس بطريقة تتسم بالشمول، ومعالجة المتاريس التي قد تقف في طريقها”.
إعلان أديس أبابا
عزيزي حمدوك
لم تُتح لنا فرصة أخرى للحديث منذ الثالث من ديسمبر المُنصرم حتى فوجئتّ بتوقيعك على اتفاقٍ سياسيٍ، بِصفتِك رئيسا ل تقدم، مع قائد الدعم السريع في أديس أبابا، 2 يناير 2024. هذا الإعلان بين طرفين، أحدهما عسكري والآخر سياسي، يخلط الأوراق ويتناقض مع مجمل ما اتفقنا عليه في السعي لجمع كل الفرقاء السودانيبن في هيئة قومية للبت في القضايا الدستورية التأسيسية. بل أن تشكيل وفد “تقدم” الذي لم يخرج من دائرة قوى المجلس المركزي، يعكس تراجعاً عن، ولا ينسجم مع مساعيك لتوسيع قاعدة التنسيقية والوصول إلى الآخرين. فقد عبرتّ لي عن عدم رضائك عن اجتماع المكتب التنفيذي لقوى المجلس المركزي بالقاهرة وزيارة وفد منهم إلى جوبا، وهم لا يشكلون إلاّ جزءاً صغيراً من تقدم، في أعقاب الإجتماع التحضيري للتنسيقية في أديس أبابا، 23-26 أكتوبر 2023.
وفي رأيي، أنّه طالما تيسرّ لِقائك مع قائد الدعم السريع أولاً، فقد كان من الأجدرِ أن تعرِضّ عليه فكرة الهيئة القومية التي رأيتّ فيها المخرج من الأزمة، حتى يتَهَيَّأَ اللقاء مع القائد العام للجيش، ويتم الاجتماع مع الطرفين سوياً. وفي حال أن حكمت الظروف بأن يكون اجتماعك مع قائد الدعم السريع في معيةِ وفدٍ من تقدم، فقد كان من الأَجْدَى مخاطبتهم جميعا بضرورة تجاوزهم لمفهوم انتقال السلطة والصراع حولها الذى لن ينقل بلادنا إلى الأمام، بل يعود بنا إلى الحلقة المفرغة وقد يُفضي إلى حربٍ أشد فظاعة وتدميراً، وأن يخرج الاجتماع فقط بتصريح صحفي عنما تم من تشاور ٍكخطوةٍ أولى في طريق جمعِ كُلِ الفرقاء في هذه الهيئة، وليس بالتوقيع على إعلانٍ سياسيٍ مُكتمِل الأركان يُدشن حاضنة سياسية جديدة تهزم فكرة التأسيس والمشاركة الواسعة برُمتها! وقد قُلت لك أنّ كثيرين، أفراد وجماعات، يتعشمون في قيادتك للتنسيقية بأن تستخدِم ما تملكه من “رأس مال رمزي”، بوصفك رئيساً لوزراء حكومة الثورة، في مهمة جمع الخصوم السياسيين وتوسيع المشاركة في العملية السياسية التأسيسية، بدلاً عن تركه لتستغله قوى سياسية بعينها لخدمة هدفها في البحث عن السلطة بالرجوع إلى محطة ما قبل حرب أبريل.
عزيزي حمدوك
لا شكِّ أنّ الإعلان السياسي بين “تقدم” والدعم السريع يزيد من حِدة الاستقطابات السياسية والعسكرية ويدفع بالقوى السياسية والمجتمعية المناهضة ل “تقدم” أن تسعى بدورها للتحالف مع القوات المسلحة، مما يُرسخ لوجودها كحزبٍ سياسيٍ. فالخطوة الصحيحة كانت تسلتزم أن تمضي في دعوتك للقاء بين البرهان وحميدتي بصفتهما قائدي طرفي الحرب للتوصل إلى قرارات بشأن ايقافها، وليس للتوقيع على اتفاق سياسي أعد سلفاً بين طرفين من أطراف الشراكة القديمة يدعوان (الفقرة iii. 4) قائد العام للجيش أن يوقع على إعلان أديس أبابا دون أن يكون مُشاركاً في الحوار حوله وصناعته، كما حدث في التفاوض حول الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية في 2019، أو حتى الاتفاق الإطاري في 5 ديسمبر 2022، والتي ضمت الأطرافَ الثلاثةَ مجتمعةً، والتي لم يُحالفها التوفيق. فما الفرق الذي سيحدثه إعلان أديس أبابا هذه المرة بما يضمن نجاحه في إنهاء الحرب؟
ختاماً
كنت قد وجهت إليك رسالةً مفتوحةً بعنوان (إلى رئيس الوزراء: كلمة المرور للعبور!)، في أغسطس 2019، قبل تكوين حكومتك الأولى، مفادها أنَّ كلمة السر لضمان نجاحك في قيادة الفترة الانتقالية مرهون بمدى قُدرتك على خلق أكبر قدرٍ من التوافق/الوفاق/الرضا السياسي-المجتمعي. وفعلاً لم يمض وقتٌ طويلٌ حتى تصاعدت الإنشقاقات وتوالت الإنقسامات في الحاضنة السياسية لحكومة الانتقال مما دعاك لإطلاق “مبادرة الأزمة الوطنية وقضايا الانتقال- الطريق إلى الأمام”، بغرضِ ترسيخ مبدأ الحوار المفتوح، الواضح، والشفاف، وإدارته بين مكونات الشعب السوداني حتى يتحقق أكبر توافق بين هذه المكونات حول القضايا والتحديات التي تواجه الانتقال المدني الديمقراطي. ولو أنّ المبادرة لم تصل إلى نهاياتها المنطقية إلاّ أن جهودك لتحقيق هذا التوافق لم تنقطع (مبادرة خلية الأزمة في 18 أكتوبر) حتى وقع انقلاب 25 أكتوبر والذي أيضاً لم يُثنك عن محاولاتك لوحدَّةِ القوى السياسية حتى تقدمت باستقالتك في مطلع يناير 2022.
فبعد إندلاع حرب أبريل، فإنَّ الواقع الماثل أكثر تعقيداً مما كان عليه قبل استقالتك من رئاسة الوزارة مما يُملي التقدم بخطابٍ سياسيٍ متماسك للقوى السياسية والمجتمعية والأهلية تُطرحُ فيه رؤيةٌ واضحةٌ ويعرضُ خطةَّ عمل لتطبيقها، بهدف تحقيق أكبر قدر من التوافق السياسي والإنخراط في عملية سياسية تأسيسية شاملة، والتي هي بمثابة تمرين ضروري يؤسس لقيام المؤتمر الدستوري لوضعِ لبناتِ بناء دولة المواطنة السودانية.
إنّ إعلان أديس أبابا يحتاج إلى مراجعةٍ موضوعيةٍ جادةٍ في هذا السياق حتى يتوصل السودانيون إلى إنهاء الحرب والسلام المُستدام، وإلاّ فستكون نتائج وتداعيات الاتفاق وخيمة على البلاد وأهلها، ذلك أن أول سؤال طرحه المراقبون فى مشهد التوقيع للاعلان أنه ما الجديد الذى استدعى قيام (تقدم ) بذاتِ الكيانات وبنفسِ الوجوه التى أدارت الفترة الانتقالية فى نسختها الأخيرة التى أفضت الى الأزمة، إضافةً إلى غيابِ الحساسيةِ اللازمةِ من قيادة “تقدم” في إجتماع أديس مما وقعَ على قطاعٍ غالبٍ من الشعب جراء الحرب من قتلٍ وتشريدٍ ونزوحٍ ولجؤٍ وإهانةٍ.