رحل عن دنيانا الفانية أخي وصديقي العزيز على التيجاني علي، فشعرت بالحزن النبيل ينداح في جسدي كما دبيب النمل. قالت لي زوجه ورفيقة حياته السيدة زينب علي (أم غسان) إن كل شيء مضى سريعاً كأنما كان على موعد مع القدر المحتوم. والمفارقة أن ذلك كان على عكس هدوئه الذي جُبل عليه في حياته.
وعلى الرغم من أنه هزم أشياء كثيرة في دنيانا، إلا أن المرض الخبيث باغته فجأة ولم يدعه يلقي تحية الوداع الأخيرة على أصدقائه وأصفيائه الذين طالما أحبهم وأحبوه، بل ولا يمل الحديث عنهم ولا يملوه، ينقل عنهم الحكاية تلو الحكاية كأنه يُحدث نفسه. فقد صاغ معهم حياة صاخبة بالمواقف والقصص والروايات كأنه يعيش الدهر أبداً. يذر على السامعين كل ما تشتهي الأنفس من جناسٍ وطباقٍ في الأنس. وكان ختامها حديث الوطن الذي عشقه حد التفاني.
(2)
قالت لي زوجه إنه: في يوم السبت الموافق 9/12/2023م فتح عينيه وقال لها بصوت متهدج أنهكه المرض: مشكلة السودان… المشكلة.
قالت له: المشكلة صعبة، ولا حلول في الأفق.. فكر في صحتك.
قال لها بثقته المعتادة في ذاته: ما صعبة لو لقت الحادبين البفهموا المشكلة صاح، حلها ساهل جداً وأنا عارف الحل.
قالت له: الحل شنو.. خلينا نقعد مع بعض ناقشني وكلمني ونخت النقط فوق الحروف.
قال لها طيب: خليها بكرة حا أكلمك. أي اليوم التالي الأحد الموافق 10/12/2023م والذي لم يأت أبداً، فقد ارتقت روحه إلى بارئها وفي نفسه شيء من حتى!
(3)
علي التيجاني علي سليل أسرة كريمة المحتد لها اسهاماتها السياسية والوطنية والتعليمية المُتجذرة في السودان. كان والده أول وكيل لوزارة التربية والتعليم بعد الاستقلال، كما شغل منصب الملحق الثقافي في سفارة السودان بالقاهرة. وكانت والدته احدى رائدات التعليم في مدينة رفاعة والتي وُلد فيها، وبحكم مهنة الوالدين تنقل في المدارس إلى أن تخرج في جامعة الخرطوم كلية الهندسة في العام 1964م تزامناً مع ثورة أكتوبر المجيدة، وكان حينها قد التحق بوزارة الأشغال والتي ابتعثته وعدد من زملائه إلى الولايات المتحدة
الأمريكية/ ولاية واشنطن/ مدينة سياتل، وبعد أن نال درجة الماجستير في الهندسة، عاد للوزارة متنقلاً في أروقتها ومُنجزاً عدداً من المشاريع الهندسية. وفي العام 1971م التحق بالقوات المسلحة قسم الشئون الهندسية. وفي العام 1981م أقيل ونحو عشرون ضابطا من الخدمة بدعوى أنهم يخططون لإقالة المخلوع (نميري) من سدة السلطة، وبعدها اتجه الفقيد نحو العمل الهندسي الخاص. ولكنه وفق ما قال لي كان
2
وزملاؤه الآخرون مرتبطين بالقوات المسلحة، كأنما قرار الإقالة لا يعنيهم. فلا غرو عندئذٍ من أن يتولى مسؤولية القيادة المركزية العليا للضباط والجنود المعاشيين حتى تاريخ رحيله.
(4)
عندما استولت الحركة الإسلاموية على السلطة بالخديعة المعروفة في العام 1989م استنفر الفقيد نفسه شأن زملائه الآخرين من الضباط المهنيين الوطنيين المنضوين تحت لواء تنظيم الضباط الأحرار باعتباره التنظيم الأقدم في الساحة العسكرية، وانخرطوا في عمل سري دؤوب وشرعوا في التخطيط لما سُمي عملية (أنا السودان) وكان ذلك عقب المذبحة التي أدمت القلوب وأودت بحياة 28 ضابطاً في مشهد مأساوي. لم تمض عملية (أنا السودان) إلى نهاياتها المخطط لها، فتم اكتشافها مُبكراً وحوكم الفقيد وعدد من زملائه
بالإعدام وآخرون بالسجن المتفاوت الأحكام. أودعوا (بيوت الأشباح) وعلى رأسهم الفقيد حيث قضى في دهاليزها نحو ستة أشهر حسوماً. وبعدها تم استبدال حكم الإعدام بالسجن المؤبد، حيث تنقل الفقيد وزملائه في سجون السودان المختلفة إلى أن أفرج عنهم بعد قضاء ست سنوات في ظلماتها.
(5)
غادر الفقيد السودان مُلتحقاً بأسرته التي سبقته إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث عشنا معاً متجاورين في أحدى ضواحي مدينة شيكاغو (ويتون) لنحو ما يناهز العشرين عاماً في ظل علاقة اخوية قاسمها المشترك الهم الذي أرهق أهل السودان. حينها برزت لي كثير من الصفات التي يعرفها أصدقاؤنا الميامين عن الفقيد من العسكريين والمدنيين. عرفته بسيطاً مُتواضعاً جسوراً، لا يميل لحياة البذخ والترف والظهور،
وحينما عنَّ لي أن أسميه (نبي الصابرين) فقد كان ذلك نتيجة تجارب ومواقف لطالما أبدي فيها صبراً كاد الصبر فيها أن يعجز عن صبره!
(6)
ليس هذا فحسب فللفقيد صفات عديدة لا يمكن للمرء أن يحصرها.. فقد كان يتمتع بعلاقات واسعة حتى تحسبه يعرف أهل السودان جميعاً. وكنت اعتبره بمثابة ذاكرتهم المُتحركة، حيث يذهل السامع في سرده تفاصيل أحداث طواها النسيان بدقة مذهلة. وكان أكثر ما يزعجه أثناء سرده سقوط اسم سهواً، بل لا يرتاح له بال إلا عندما يهاتفني مُستذكراً الاسم كأنه يزيح عن كاهله حملاً ثقيلاً. غير أني كنت كثير العتب عليه في عدم تدوين تلك الأحداث أو حتى ذكرياته فيما يتصل بحياته. وكنت في ذلك أخشى وقوع القدر الذي ليس
منه مفر. لكنه كان كشأن غالبية أهل السودان الذين يميلون لأحاديث الشفاهة، وهم يعلمون أن هادم اللذات قادم ولا مفر منه!
(7)
كان الفقيد العزيز كثير الاطلاع في شتى ضروب المعرفة، ومما لا يعرفه كثير من الأصدقاء عنه، أنه كان محباً لغناء الحقيبة وقصصها التي تكاد أن تكون أسطورية.، وكذلك ما لا يعرفه بعض الأصدقاء عنه أنه كان يميل لسرد الملح والطرائف والقفشات التي تنطوي على مواقف مضحكة، يسردها بتلك الذاكرة المتوهجة كأنه كان أحد حاضريها. أما أنا فبحكم علاقـتي الوطيدة معه أزعم بأنني عرفت أشياء وغابت عني
3
أشياء، أهمها في تقديري أنني بت أعرف سيكولوجيته في تعامله مع القضايا السياسية والثقافية، وصرت أعرف كذلك كيف استطيع أن أجذبه لحوار يتجلى فيه بذهن مفتوح. وفي واقع الأمر كان شديد الاعتداد بنفسه، لا سيما، في الخُلاصات التي يشتجر حولها الناس، فهو يستحضرها بهدوئه المعهود، ومن ثم يطرحها في قالب رضائي لا يغضب أحداً. ومع ذلك يتميز بشجاعة في التعبير عن مكنون صدره ويستميت فيه حتى يتبين له الحق. ولذا فهو لا يدلو برأيه إلا بعد لأيٍ يعيل فيه صبر المنتظرين.
(8)
رحل علي التيجاني علي إلى رحاب ربه وما الموت سوى سبيل الأولين والآخرين. وقد ترك من خلفه سيرة عطرة في ظروف أدلهم فيها ليل الوطن البهيم، وتكالبت عليه براغيث الإسلامويين وبغاث جنرالات الوهم وشرعوا ينهشون في جسده الطاهر. كلما نظرنا إلى أين نحن منتهون حينما نجتر مالآت هذه الحرب الكارثية، أرتد إلينا البصر وهو حسير. لكننا لم نفقد الأمل ولا الإيمان بقدرة هذا الشعب الذي سينهض كطائر الفينيق ليكتب فاصلاً جديداً في سفر الخلود.
فإلى جنات الخلد يا صديقي العزيز والعزاء لأسرتك الصغيرة والممتدة بحجم السودان وأرقد في سلام.
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والحرية والديمقراطية وإن طال السفر!
faldaw@hotmail.com