تابعت خلال الفترة الماضية الحوار والنقاش الدائر بين أطراف من الفاعلين السياسيين حول ضرورة إشراك حزب المؤتمر الوطني (المحلول) في العملية السياسة كأحد إشتراطات وضرورات ومتطلبات إنهاء الحرب في السودان، وخلال حديثي في لايف مباشر على صفحتي بالفيسبوك مساء يوم الخميس 25 يناير 2024م تناولت هذه القضية ورأيت ضرورة عرضها في شكل مقال صحفي بغرض مخاطبة قطاعات أوسع لم تتاح لها فرصة متابعة اللايف على الفيسبوك لدوافع شتى.
أعتقد أن مسألة ضرورة الحوار مع المؤتمر الوطني (المحلول) كفكرة لم تكن أحد نتائج الحرب ولكنها ظلت مطروحة منذ أبريل 2019م بواسطة مفوض الإتحاد الإفريقي البروف محمد الحسن ود لباد ولعل التاريخ قد يبدو مدهشاً لكونه لاحق لسقوط نظام البشير ويومها طرح ود لباد فكرته القائمة على إقرار مصالحة وطنية سودانية على نهج جنوب أفريقيا ما قبل الفصل العنصري رغم إغفاله المتعمد للقاعدة الأساسية لتلك المصالحة كانت قبول ورضوخ نظام الفصل العنصري على تفكيك بنية نظامه وليس منح نظام الأبارتيد المشروعية، وبالتالي فإن ود لباد ومنهجه ذلك (يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض) يريدها مصالحة تمنح اختلالات الثلاثة عقود (المشروعية) ولا تقود لتفكيكها وتأسيس واقع جديد.
أعاد ود لباد الكرة مرة اخرى في حوار السلام روتانا في يونيو 2022م ومعلوم النتيجة بذات حصيلة الأولى، ويكررها للمرة الثالثة الان بعد الحرب مستغلاً وجوده في مؤسسات الإتحاد الإفريي لتسويق فكرة جعل الحزب المحلول جزءاً من الحوار لضمان وقف الحرب لكون الحزب المحلول هو الطرف الفاعل والأساسي، وهو بذلك المنطق يقر بما تم إنكاره على الدوام بأن مشعل الحرب ومغذي استمرارها هو الحزب المحلول نفسه !! المدهش أن ود لباد لا يجد حرجاً في التباهي بتمسكه بهذه الفكرة وهو ما يجعل السؤال المطروح مرتبطاً بالسر وراء إصراره المريب على تطبيق هذه الرؤية بشكل مستمر ومستمر منذ أبريل 2019م وحتى اليوم.
إن مسألة وجود المؤتمر الوطني المحلول في أي عملية سياسية مستقبلية ليست مرتبطة بالشكل اي وجود الحزب المحلول من عدمه لأن هذا الأمر يمكن حله ببساطة بتعديل اللافتة والوجود تحت مسمى جديد ولكنه يرتبط بـ(الجوهر) وهذا يقود لوضع الحصان أمام العربة عوضاً عن وضع العربة أمام الحصان بسؤال (الشكل)، وهذا يقودنا لجعل المدخل الأساسي هو الإجابة على السؤال المفتاحي بداية من هم المنادون بضرورة الحوار مع الحزب المحلول؟ في ما يتصل بمقاصد هذا الحوار هل هو لإنهاء الحرب كقضية مبدئية أم لتقليل كوارثها ونتائجها ووقفها بأي صورة وإن اقتضى مكافأة الأطراف التي أشعلتها ؟! الإجابة تحدد المقصود والمطلوب وترسم ملامح المستقبل وتبعاته.
إذا كان المطلوب إيقاف الحرب كموقف مبدئي وليس لحصد ثمار الحرب والمكافأة عليها فإن التدابير المتعلقة بالحزب المحلول ليست مسؤولية الأطراف الرافضة للحرب أو قوى الثورة ولكنها تتوجه مباشرة للحزب المحلول ومواقفه، ولذلك فإن الشرط الواجب والأساسي في ظروف الحرب أن يعلن الحزب المحلول قولاً وفعلاً دون مواربة رفضه للحرب وطلب وقفها وامتناعه عن المشاركة فيها أو تصعيدها، ببساطة حجر الزاوية الأساسي الراهن هو وقف الحرب كلياً ونهائياً وليس منحها مشروعية أو الإصطفاف إلى جانب أي من أطرافها.
يجب النظر للموقف المنادي بوقف الحرب فوراً من قبل الحزب المحلول ليس مقايضة أو مساومة ولكنه يتحرك كموقف مبدئي وأخلاقي تجاه البلاد والعباد دون انتظار عائد من ورائه أو بعده لكونه يمثل بمثابة حجر الزاوية و(قلب) العملية السياسية المستقبلية و(وضوء) فرضها، فغياب هذا الأجراء يجعل الناتج مجرد شكل و(حركات) ومظهر فاقد للجوهر والمضمون، لأن الإستمرار في الحرب والتحشيد لها بالتزامن مع دعوات الحوار يجعل التوصيف الصحيح ليس (مصالحة وطنية لوقف الحرب) وإنما منح المشروعية لأفعال عصابة احتلت مجمع تجاري بالسلاح واشتراطها للشرطة التي تحاصرها السماح لها بالخروج بكل الأموال وإصدار تشريع قانوني يمنع ملاحقتها بسبب سرقتهم وقتلهم تسعين في المائة من الرهائن المحتجزين !! .. ببساطة حصاد هذا المنطق وقف مؤقت للحرب لكن سيعقبها أخرى أشرس وأعنف لأن من أشعلها ينال المكافأة على ما ارتكبه من جرائم!!
إن العملية السياسية المستقبلية تتطلب الإيفاء الكامل بمتطلبات تحقيق السلام الشامل وتأسيس الإنتقال المدني الديمقراطي المستدام وهذا يتطلب إقرار وموافقة الجميع دون إستثناء على تفكيك التمكين الحزبي وإعادة تأسيس مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية والعدلية في القضاء والنيابة على أسس قومية مهنية احترافية غير حزبية ملتزمة بواجباتها الدستورية وخاضعة للسلطة المدنية الدستورية مع حل وتصفية أي تشكيلات عسكرية أو شبه عسكرية ذات طابع حزبي، والامتناع والالتزام التام بعدم استخدام العنف والقوة للوصول للسلطة والتوقف الفوري عن بث خطاب الكراهية والتحريض عليه.
يضاف لما ذكره سابقاً إعلان التعاون الكامل غير المشروط بصدق وأمانة مع لجان التحقيق المناط بها رصد وتوثيق والتحقيق في أسباب الحرب والتجاوزات التي تمت خلالها وتسليم ومحاكمة كل المتورطين في جرائمها والمحرضين على إرتكاب الجرائم والانتهاكات دون استثناء بما في ذلك المطلوبين للعدالة الدولية والمحكمة الجنائية الدولية وتسليم المتهمين الهاربين من السجون استئناف محاكمتهم بما في ذلك المتهمين الذين صدرت أحكام قضائية في مواجهتهم على رأسهم المتهمين بقتل الثوار خلال ثورة ديسمبر.
من بين المطلوبات عدم عرقلة إجراءات إرجاع الأموال العامة المتحصل عليها بطرق غير مشروعة في الداخل والخارج، والامتناع عن توفير الغطاء السياسي والإعلامي المتهمين بقضايا الفساد المالي والإداري، والقبول والالتزام بالخيار السلمي الديمقراطي القائم على الإرادة الشعبية كوسيلة للوصول للسلطة، والاعتذار والاعتراف بارتكاب الأخطاء السياسية بالانقلابات العسكرية وتقويض الإنتقال الديمقراطي وإشعال الحروب ونشر خطاب الكراهية والعنف وانتهاكات الحروب، مع الإلتزام التام باستبعاد كل المتورطين الصادر في مواجهتهم إدانة أو أقروا بتقويض للإنتقال الديمقراطي أو أشعلوا الحرب من العملية والممارسة السياسية مستقبلاً.
الإيفاء بهذه المتطلبات بالإعلان قولاً ثم إتباعه بشكل فعلي في خطوات وقف الحرب يجعل الأمر يتجاوز فعلياً (الشكل) إلى (المضمون) ويضع أسس وإجراءات تفضي لأنهاء الحرب وتحقيق السلام وتأسيس انتقال مدني ديمقراطي مستدام، أما دون تحقيق تلك المتطلبات الموضوعية المرتبطة بمستقبل الإنتقال المدني الديمقراطي فهو يعني ببساطة إحتمال إيقاف الحرب بهدنة هشة سرعان ما تنهار لتأسيسها على قواعد غير متماسكة اشبه بمن ينتظر المشهد النهائي لمشهد الاسد الجائع المنهك عند إدخاله لحظيرة الدجاج والارنب فمن المؤكد سيلتهم الأسد كل الموجودين في القفص وربما بفضل الولائم الدسمة سيمنح طاقة تمكنه من كسر الحظيرة فيهدد محيطه وكل جيرانه … فذاك الأسد الجائع فما بالنا بحزب المؤتمر الوطني المحلول صاحب السجل الطويل في الإرهاب وتقويض الاستقرار إقليمياً ودولياً ستكون النتائج وخيمة على الجميع بداية بالمحيط الإقليمي المجاور للسودان.
لكل ذلك فمن الأفضل أن تحدد المطلوبات بشكل موضوعي ونركز على جوهر ومآلات عملية سياسة تقودنا لنتائج تضع حداً للحروب في السودان نهائياً وتحقق لسلام دائم وتؤسس لإنتقال مدني ديمقراطي مستدام عوضاً عن مخاطبة القضايا من زاويا (العواطف) وتجاهل التبعات والنتائج فلا يزال لبنان يحصد ثمن تغليب عواطف قرار إقرار ومشروعية سلاح حزب الله ويدفع ثمن ذاك الموقف حتى اليوم.. ببساطة فإن خيار السودانيين والسودانيات الوحيد المتاح بعد هذه الحرب الكارثية ليس من بينه دحرجة الأزمات والهروب منها والقذف بها صوب المستقبل إنتظاراً لحرب جديدة قادمة ولكنهم بدلاً عن ذلك يختاروا تحويل المحنة الراهنة لنعمة مستقبلية بأن تكون حرب أبريل 2023م هي آخر حروب السودان.