في العلاقات الدولية تنشب الحروب عادة عندما تتعارض المصالح القومية للدول بشكل يصعب فيه التوفيق بين تلك المصالح، لا سيما عندما يُعبر عن المصالح بالإرادة السياسية political will وهذه الأخيرة تمثل الدافع الرئيس لسلوك الدول… و تتحقق المصالح القومية عادة وفقاً لقدرات الدولة في ممارسة نفوذها في المسرح الدولي بإستخدام الإرادة السياسية وإملائها على الخصوم حتى يذعنوا سلمياً أو بالحرب بممارسة القوة الخشنة في ميدان المعركة وإجبار الخصم على فعل ما يريد صاحب الإرادة. لذلك يبدو مضمار العلاقات الدولية أشبه بالغابة ونظمها لأن الإحتكام فيه دائما ما يكون للقوة.و تنشب الحروب عادة مدفوعة بالإرادة والمصلحة بغض النظر عن منطقية تلك المصلحة والارادة واتساقهما مع المبادئ الأخلاقية.. حيث تبدو الحرب أشبه بكرة اللهب يتعاورها اللاعبون في المسرح الدولي وقد تستقر في حجر أي لاعب بحيث لا يستطيع أن يرفضها أو يردها وهذا بالضبط ما يجري في القرن الأفريقي بعد أن وقعت أديس أبابا اتفاقاً مع أرض الصومال قضى بمنح إثيوبيا منفذاً على البحر الأحمر على ميناء بربرة لمدة خمسين سنة للإستخدام المدني والعسكري مقابل أن تعترف إثيوبيا بدولة أرض الصومال وبعض الفوائد المادية كمنحها حصة محدودة في الخطوط الإثيوبية.. بالنظر لفحوى هذا الإتفاق بعيون بقية الفاعلين في المنطقة فقد أشعل كرة اللهب بسرعة فائقة خاصة لدى جمهورية الصومال والتي سارعت بوصفه (أنه انتهاك لسيادتها ووحدة أراضيها وأعلنت بطلانه) ، وطفقت تبحث عن حليف ترمي له كرة النار الملتهبة حيث سرعان ما وجدت في مصر الفاعل الآخر في المنطقة من يقبل بوضع تلك الكرة الملتهبة في حجره لا سيما وأن مصر ترتاب في التحرك الإثيوبي بوصفه تمدد لنفوذ دولة لها طموحتها في أن تكون قوة إقليمية. فحسابات مصر ورغم أنها لم تفصح عنها بشكل علني إلا أنها وبحكم منطق الإرادة السياسية لا تريد أن ترى في إثيوبيا قوة إقليمية ذات نفوذ بحري، لا سيما بعد أن فشلت مصر عمليا في لجم طموحات إثيوبيا في السيطرة على مياه النيل الأزرق بعد أن طوقت نفسها بإعلان المبادئ في 2015م .. فقد سجلت إثيوبيا انتصارات دبلوماسية على مصر ولحد ما على السودان حيث لم يستطيعا معاً أن ينتزعا من إثيوبيا أي التزام قانوني فيما يخص قضية السد رغم احالتهما ملف السد لمجلس الأمن الدولي دون طائل.
على عموم الأمر، يمكن وصف إتفاق أديس أبابا مع أرض الصومال بأنه إتفاق لا يخلو من نفس انتهازي، ويعبر عن حالة يأس State of disparity مفرط يعتري الطرفين.. فأثيوبيا من جانبها تريد منفذاً على البحر لتمارس عليه سيادتها وتستغله للأغراض العسكرية بأي ثمن. وأرض الصومال تريد مَن يتعرف بها بأي ثمن، لذلك فإن كلا الطرفين مدفوعاً بحالة يأس مفرط في تبادل هذه المصلحة المستحيلة… فأرض الصومال لم تهبط فجأة للوجود من السماء، وإنما كانت موجودة منذ العام 1991 لم تعترف بها إثيوبيا طوال هذه الفترة إلا عندما حان الوقت بعد أن فرغت نسبياً من قضية السد الذي إستنزف منها الكثير من الجهد الفني والدبلوماسي، فهي الآن تخطو وئيداً نحو هدفها في استعادة أمجادها الإمبراطورية وتحقيق مقولة احد جنرالاتهم أن حدود أثيوبيا هي البحر الأحمر.. غير أن الأمر بالنسبة لدولة الصومال وفيما عبرت عنه وزارة الخارجية بأنه انتهاك لسيادتها ووحدة أراضيها. وبالنسبة لمصر فإنه تجاوز من قبل إثيوبيا لحقائق الجغرافيا السياسية ومحاولة للتمدد في منطقة حيوية بالنسبة لها “وتغول” على دورها الريادي في المنطقتين العربية والأفريقية.. لذلك كان تصريح الرئيس المصري واضحاً وإن جاء تحت ستار الدفاع عن دولة عربية شقيقة ووحدة أراضيها. وقد ينطوي على تهديد تكاد تتردد في نبراته لغة الأخ الأكبر حيث ذكر في المؤتمر الصحفي الذي جمعه مع الرئيس الصومالي (ما حدش يجرب مصر، ويهدد اشقاءها) والمعنى واضح وما قد ينطوي عليه من وعيد… وهكذا انتصب عود صراع الإرادات في القرن الأفريقي والبحر الأحمر .. وهكذا احتضنت مصر كرة النار الملتهبة على حين لن تتراجع إثيوبيا عما تعتبره حق لها في الإطلال على البحر مهما كان حجم التهديد والوعيد ومصدره.. كما لن تفتأ جمهورية الصومال بتذكير مصر بواجبها والتزامها بالوقوف الي جانبها وهكذا ستشهد منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر سُعار حرب لا أحد يدعي أنها فُرضِت عليه.
د.محمد عبد الحميد
wadrajab222@gmail.com