أصبح في “خبر كان” يعني هلَك وفَنِي، أو مَضَى، وفي تموز/ يوليو من عام 2011، صار السودان كما عرفه العالم قبلها، في خبر كان، عندما انقسم الشطر الجنوبي من البلاد وصار دولة مستقلة، وجاء الانشطار ثمرة عقود من الدماء والجراح والخراب، وتتويجا لجهود الحكومة التي كان على رأسها عمر البشير ما بين عام 1989 و2019، التي حولت الحرب ضد التمرد في جنوب السودان إلى حرب جهادية ضد الكفر والصهيونية والماركسية، ثم صالحت التمرد بموجب اتفاق عليه شهود دوليون، يقضي بجعل وحدة الشطرين جاذبة، و”إلا فليكن تقرير مصير الجنوب”، فعمدت تلك الحكومة إلى جعل الوحدة منفرة فحدث ما حدث.
وفي ظل حكومة عمر البشير تكاثرت حركات التمرد المسلحة في غرب وجنوب شرق وجنوب ما تبقى من البلاد، رفضا لما أسمته بالتهميش، ومن ثم دخل الجيش السوداني في حروب مدمرة ضد تلك الحركات، ولما عجز عن حسمها، تم تشكيل قوات الدعم السريع في غرب البلاد، ونجحت الأخيرة في كسر شوكة التمرد إلى حد بعيد، مما حدا بالبشير منح قائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) رتبة فريق، ثم كانت الهبة الشعبية التي أطاحت بحكومة حزب المؤتمر الوطني، ورئيسها البشير في نيسان/ أبريل 2019، وأتاحت لعبد الفتاح البرهان أن يصبح قائدا للجيش ورئيسا لمجلس سيادة انتقالي، فكان أن اصطحب البرهان حميدتي إلى قصر الحكم نائبا له في المجلس السيادي، ثم اصطدم طموح هذا بطموح ذاك في “الانفراد بالحكم”، فكانت الحرب التي اشتعلت بين الجيش والدعم السريع في نيسان/ أبريل المنصرم.
وكانت المفاجأة الفاجعة لأهل السودان ثبوت أن جيشهم الوطني ليس ندا لقوات الدعم السريع، التي تتألف في معظمها من رجال قبائل في جنوب دارفور، فقد تهاوت العديد من الحاميات العسكرية النظامية كبيوت الكرتون في يد الدعم السريع، الذي صارت المبادرة بيده وصار صاحب القرار في أمر أين ومتى وكيف تكون المواجهات، بينما صار الجيش عاجزا حتى عن تقديم تبريرات لأدائه الهزيل، وكف حتى عن ترديد أن خروجه من منطقة ما كان انسحابا تكتيكيا، وذلك بعد ان امتلأت منصات التواصل الاجتماعي بتعليقات ساخرة، مؤداها ان قادة الجيش لا يستذكرون ولا يجيدون مما درسوه في الكليات العسكرية سوى “الانسحاب التكتيكي”.
ما ظل يحدث في السودان طوال الشهور التسعة الماضية، هو أن الدعم السريع يواصل الزحف على المدن في كل الاتجاهات محرزا انتصارات عسكرية متتالية ومتوالية، وبإزاء ذلك لم تجد قيادة الجيش بُدّاً من الاستنجاد بالمواطنين ليتطوعوا للقتال في خندقهاكتبت هنا في “عربي21″، مقالا بعنوان “إفساد الجيوش بزجها في شؤون الاقتصاد” (16/11/19)، تحدثت فيه عن امتلاك القوات المسلحة السودانية لمنشآت اقتصادية ضخمة في مناطق رمادية، أي بعيدا عن أي رقابة أو متابعة من جانب الحكومة المركزية، “ما يعني ضمنا أن إيراداتها لا تدخل الخزينة العامة، إلا بمعنى أن القوات المسلحة جزء من الحكومة وبالتالي فـالجيب واحد، كما نقول في السودان لتبرير وجود أموال معينة لدى أكثر من طرف واحد”. ورحم الله شيخ علماء الاجتماع ابن خلدون الذي قال: إذا تعاطى الحاكم التجارة، فسد الحكم وفسدت التجارة.
وقلت أيضا في ذلك المقال إن “قوات الدعم السريع، والتي لا يفتأ قادة الجيش السوداني يرددون أنها تتبع للقوات المسلحة، تملك من موارد مالية ضخمة لا شأن لأجهزة الدولة بها، ما يجعلها تمارس التجنيد وتوزيع العطايا بسخاء لغسل أيديها وسمعتها التي تلوثت كثيرا، بسبب الدموية والوحشية التي مارسها عناصرها أينما حلّوا”.
وما ظل يحدث في السودان طوال الشهور التسعة الماضية، هو أن الدعم السريع يواصل الزحف على المدن في كل الاتجاهات محرزا انتصارات عسكرية متتالية ومتوالية، وبإزاء ذلك لم تجد قيادة الجيش بُدّاً من الاستنجاد بالمواطنين ليتطوعوا للقتال في خندقها، وكان لافتا أن ذلك الاستنجاد جاء موجها لمن يسمون بأبناء الشريط النيلي، وفي هذا أمران: وهو أن من هم خارج ذلك الشريط ليسوا اهلا للثقة، أو أنهم مستهدفون باعتبار أنهم احتياطي استراتيجي للدعم السريع، وما يسهم في تعزيز تلك الفرضية أن والي ولاية نهر النيل وهي الإقليم الذي ينتمي إليه عبد الفتاح البرهان، وقف خطيبا أمام مواطني الولاية وقال لهم فيما قال إن النساء المنقبات جاسوسات يعملن لحساب الدعم السريع، وإنه ينبغي مراقبة ورصد من يعملون في المهن الهامشية بنظام رزق اليوم باليوم ـ وهم في معظمهم من أبناء غرب السودان ـ باعتبار أنهم موالون للدعم السريع، بل إن والي ولاية في شرق البلاد، قدم وصفا فسيولوجيا وحسِّياً لإنسان غرب السودان، وطالب بأن يوضع ذلك الصنف من البشر تحت الرقابة، وبموازاة ذلك انشق عدد من جنود وضباط الجيش من أبناء الغرب عن القوات المسلحة وأعلنوا الانضمام للدعم السريع، أي أن الولاء لهذا الطرف أو ذاك لم يعد لاعتبارات وطنية، بل لاعتبارات مناطقية وقبلية.
للجيش السوداني سوابق في محاربة حركات تمرد في جنوب ،وغرب، وجنوب شرق البلاد لأكثر من نصف قرن، ولكنه لم يحارب قط عدوا خارجيا، ومن ثم فالأوسمة والأنواط التي فاز بها الضباط على مرّ السنين، كانت عائد الاستبسال في محاربتهم لبني وطنهم، ولا يلامون على ذلك، فقرارات الزج بالجيوش في حروب يتخذها الحاكمون؛ ولم ينجح الجيش قط في استئصال التمردات تلك، وها هو يحارب اليوم خصما أقوى شكيمة وعزيمة من حركات التمرد، وطالما أنه يجري الآن فرز المواطنين على أساس إثني وعرقي ومناطقي، فمن الوارد أن يرتئي قادة الطرفين المتحاربين تقسيم الغنائم باقتسام الوطن، بل هناك من يرى أن معسكر البرهان لا يمانع في أن يستفرد حميدتي بقسم من البلاد ويحكمه، نظير ترك قسم كبير لهم، تكون عاصمته مدينة بورتسودان التي لجأ إليها البرهان وكبار معاونيه العسكريين، لأن بها مطارا دوليا يتيح السفر إلى الخارج وميناء بحريا يدر بعض العائد المالي.
وعن جنس البرهان وحميدتي، قيل إن العسكر في أروقة الحكم كقرود في مزرعة، إذا تشاجروا فيما بينهم، أفسدوا الزرع، وإذا تصالحوا أكلوا المحصول.