الاصطفاف الحاد الذي حدث لقوى الثورة بين طرفي هذه الحرب والمآزق الأخلاقية لبعضها نتيجة تحالفاته، لن تتوقف فاتورته الباهظة على طرف دون آخر. شمائل وإنما سينسحب ذلك خصماً على مستقبل التغيير في هذه البلاد.
لا تزال الأسئلة الكبرى مطروحة بإلحاح يتجلى في ثنايا يوميات الحرب في السودان وطبيعة توجهات ونشاط الفاعلين فيها.
فهل الحرب أداة سامة جرى تفعيلها لقتل “ثورة ديسمبر” ودفنها، أم أن غياب الرؤية لدى قوى الثورة بخصوص إدارة البلاد، وهشاشة تحالفات القوى المدنية بعد سقوط نظام البشير هو ما قاد إلى هذا الحريق الذي يأبى أن ينطفئ، أم أن الحرب جراحة مهمة في عملية التغيير، أم أن كل هذا لا ينفصل عن بعضه؟
وإن كانت حرب 15 نيسان/ أبريل بين الجيش وذراعه، قوات الدعم السريع، هي المهدد الحقيقي لمصير “ثورة ديسمبر”، إلا أن الحقيقة الصارخة الآن أمام الجميع هي أن صوت قوى الثورة تقهقر أمام دوي السلاح على الرغم من الحاجة الشديدة إليه.
ربما كان من الطبيعي أن يتراجع الصوت المدني أو الحراك السلمي في مثل هذه الفترات، طالما أن الحرب لا تعرف إلا لغة السلاح وخطاب الكراهية وضرب الخصوم السياسيين بأقذر الوسائل. لكن المُقلق هو استطالة الاستكانة على هذا الوضع وترك الفضاء العام ليعلو فيه صوت الحرب، وهو ما يقودنا إلى سؤال: أين تقف قوى الثورة من هذه الحرب وفيها، ولماذا أصبحت يدها مغلولة؟
إضاعة الهدف الماسي
الحرب، على الرغم من بشاعتها، تخلق فرصاً نوعية لإعادة بناء السياسة، المجتمع والاقتصاد، فهي فرصة نادرة للنهوض إن أحسنت إدارة الفترة التي تليها. وفي الحال السودانية، وضعت هذه الحرب الكرة في ملعب قوى الثورة كي تحرز هدفاً ماسياً، إذ كان ممكناً أن تقف جميعها موقفاً موحداً صلباً ضد الحرب وأن تتخذ الحياد التام من طرفيها (الجيش و”الدعم السريع”)، وأن تؤسس خطاباً مدنياً يجعل الجميع يكفر للأبد بحكم العسكر الذي لم يقدِّم إلا الحريق لهذه البلاد. وكان بالإمكان أن تتوحد قوى الثورة بمختلف تشكيلاتها لقيادة هذه المرحلة، كي يدرك الجميع أهمية أن يكون الحكم مدنياً بعدما رأوا بأعينهم حماقة العسكر في السلطة، حماقة قد تؤدي إلى حريق البلاد بأكملها، وهو ما حدث.
ولو أن قوى الثورة وظّفت فقط مطلب الإصلاح الأمني والعسكري – وهو مطلب ثوري – لكفاها، دع عنك ملف الانتهاكات الجسيمة خلال هذه الحرب.
لكنها لم تتعامل مع الحرب باعتبارها مهدداً حقيقياً لمشروع التغيير الكبير، وسوء التقدير الأكبر أنها لم تتعامل مع طرفي الحرب على أساس أن موقفهما موحَّد ضد التغيير.
استجابت للاستقطاب. انقسمت وتشتتت بين الطرفين، فاختارت بعض لجان المقاومة، خاصة تلك الفاعلة، الانخراط مع الجيش لقتال “الدعم السريع” بشكل معلن، حيث منحت انتهاكات هذا الأخير حججاً لداعمي الجيش والمصطفين معه، على الرغم من أن هذه المجموعات الشبابية كانت الأكثر تطرفاً ضد الشراكة مع العسكر، وعلى الرغم من أنها تعلم تماماً أن الجيش و”الدعم السريع” ظلاّ في تواطؤ مستمر ضد الثورة منذ يومها الأول.
أما التحالف الرئيسي في هذه القوى، وهو “الحرية والتغيير”، فبدلاً من أن يستعيد زخمه بإعادة تقديم نفسه، اختار الانتحار السياسي بالتقارب البائن مع قوات “الدعم السريع” التي لم تعد ترتبط في أذهان السودانيين إلا بالفظاعات.
وأما بعض الحركات المسلحة الرئيسية التي كانت جزءاً من “الحرية والتغيير” قبل أن تتحالف مع الجيش والدعم السريع للانقلاب على الحكومة المدنية، فقد أعلن بعضها مؤخراً عن مساندته للجيش بينما بعضها الآخر يساند الدعم السريع باعتبارها جزءاً من “تحالف الحرية والتغيير”. لكن تعقيدات الحركات المسلحة بمختلف توجهاتها وسنوات الحرب الطويلة في دارفور تجعل النظرة إلى مواقف هذه الحركات ذات معايير مختلفة عنها بالنسبة للقوى المدنية، وما تبقى من قوى الثورة التي اتخذت الموقف الصحيح ووقفت فعلياً على الحياد، فصوتها خافت ويكاد لا يُسمع وسط هذا الدوي.
لماذا اختارت “الحرية والتغيير” التقارب مع “الدعم السريع”
هذا التقارب بدأ بشكل واضح منذ الفترة التي سبقت الحرب، حينما كانت الأطراف تعتزم التوقيع على الاتفاق الإطاري. وبالفعل أظهر قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو – وقتها – حرصاً علنياً على الالتزام بالاتفاق بعد ما أعلن عن موقفه من انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر وتبرأ منه، بينما كان قادة الجيش يتملصون من الاتفاق. وكان معلوماً للجميع أن حرص دقلو على الاتفاق الإطاري – وقتها –سيضمن له مكاسب نوعية.
كان بالإمكان أن تتوحد قوى الثورة بمختلف تشكيلاتها لقيادة هذه المرحلة، كي يدرك الجميع أهمية أن يكون الحكم مدنياً بعدما رأوا بأعينهم حماقة العسكر في السلطة، حماقة قد تؤدي إلى حريق البلاد بأكملها، وهو ما حدث. ولو أن قوى الثورة وظّفت فقط مطلب الإصلاح الأمني والعسكري – وهو مطلب ثوري – لكفاها، دع عنك ملف الانتهاكات الجسيمة خلال هذه الحرب.
استجابت قوى الثورة للاستقطاب. انقسمت وتشتتت بين الطرفين العسكريين، فاختارت بعض لجان المقاومة، خاصة تلك الفاعلة، الانخراط مع الجيش لقتال “الدعم السريع” بشكل معلن، باعتبار أن انتهاكات هذا الأخير منحت حججاً لداعمي الجيش والمصطفين معه، على الرغم من أنها تعلم تماماً أن الجيش و”الدعم السريع” ظلاّ في تواطؤ مستمر ضد الثورة منذ يومها الأول.
أما النظام السابق وغالبية تشكيلات الإسلاميين فقد اصطفت خلف الجيش بشكل صارخ واتخذت موقفاً صريحاً يؤيد استمرار الحرب، وصارت تخوّن كل من يقول “لا للحرب”. وهو اصطفاف قديم، إذ أنه ومنذ إعلان شراكة مدنية – عسكرية بعد سقوط البشير، واصل النظام السابق دعمه التحريضي للمكوِّن العسكري بشقيه (الجيش و”الدعم السريع”) بل إن هذا الدعم التحريضي بدأ قبل الاتفاق بين المدنيين والعسكريين، حينما كانوا جميعاً يخططون للفتك بالثورة. وتقف مجزرة فض اعتصام القيادة العامة في حزيران/ يونيو 2019 خير شاهد على ذلك.
مواقف النظام السابق الداعمة للعسكر مكشوفة ومعلومة للجميع، لكن الجديد هو أن الدعم تحول برمته إلى الجيش وجرى تصنيف “الدعم السريع” كعدو لأنه اختار الانتقال إلى التحالف مع “الحرية والتغيير”.
الاستقطاب قديم – حديث
لا يختلف اثنان في أن قوى الثورة التقليدية الممثلة في الأحزاب السياسية، وتلك الحديثة الممثلة في الحركات المسلحة، وكذلك تجمع المهنيين ولجان المقاومة، لم تنفك من الاصطفاف والاستقطاب بين طرفي المكون العسكري (الجيش و”الدعم السريع”) منذ سقوط نظام عمر البشير في نيسان/ أبريل 2019.
ولأن طبيعة التسوية السياسية التي تمت بعد السقوط لا تُمكّن “الحرية والتغيير” من استقلالية القرار والفعل، فقد ظلت متجاذبة بين الأطراف العسكرية، والتي هي في الأساس جزء لا يتجزأ من النظام المعزول، وظلت على تواصل لم ينقطع مع عناصره، التي لم تتردد أبداً في خلخلة هذه الشراكة، مستغلة في ذلك خَوَر هذه القوى وتشتتها وانقساماتها وحداثة عهدها بإدارة الدولة.
أما التحالف الرئيسي في هذه القوى، وهو “الحرية والتغيير”، فبدلاً من أن يستعيد زخمه بإعادة تقديم نفسه، اختار الانتحار السياسي بالتقارب البائن مع قوات “الدعم السريع” التي لم تعد ترتبط في أذهان السودانيين إلا بالفظاعات. وكانت حجة هذه القوى أن قائد “الدعم السريع” محمد حمدان دقلو حرص علناً على الالتزام بالاتفاق الإطاري، بعدما أدان انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021 وتبرأ منه.
أما النظام السابق وغالبية تشكيلات الإسلاميين فقد اصطفت خلف الجيش بشكل صارخ واتخذت موقفاً صريحاً يؤيد استمرار الحرب، وصارت تخوّن كل من يقول “لا للحرب”. وهو اصطفاف قديم، إذ أنه ومنذ إعلان شراكة مدنية – عسكرية بعد سقوط البشير، واصل النظام السابق دعمه التحريضي للمكوِّن العسكري بشقيه (الجيش و”الدعم السريع”)
بعد ساعات الانفجار الأولى في 15 نيسان/ أبريل، انغمس الجميع في جدل حول “من أطلق الرصاصة الأولى”؟ وكانت “قوى الحرية والتغيير” ولا تزال تخوض معركة إقناع واسعة في الإعلام لإثبات أن عناصر النظام السابق هم من أطلقوا الرصاصة الأولى بعدما جيّشوا الرأي العام ضد الاتفاق الإطاري المزمع التوقيع عليه وقتذاك، بينما اجتهدت مجموعات واسعة من النظام السابق المصطفة بضراوة خلف الجيش في إقناع الرأي العام أن ما جرى كان محاولة انقلاب من “الدعم السريع” وحلفائه من “الحرية والتغيير” لفرض الاتفاق الإطاري الذي بدأ قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، في التّمَلُّص منه في الأيام الأخيرة تحت ضغط عناصر النظام السابق، الذين استعادوا مواقعهم في جهاز الدولة عقب انقلاب 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021، ثم توسع نفوذهم خلال هذه الحرب.
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
ويبدو أن هذا الجدل كان تمهيداً لاصطفاف أشد وضوحاً، وأكثر جرأة، فلم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى بانت الملامح، فاختار “تحالف الحرية والتغيير”، وهو تحالف رئيسي لقوى “ثورة ديسمبر 2018″، أن يتقارب مع “الدعم السريع” تحت مزاعم أنه بدأ فعلياً في قطْع صلته بالنظام السابق والانحياز إلى قوى الثورة حسب ما أظهرته مواقف دقلو من انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر، ومن ثم الحرص الظاهر على الالتزام بالاتفاق الإطاري، إلى أن انفجرت الحرب وكشفت حجم الانفصال بين خطابات دقلو وبين ما تفعله قواته على الأرض.
الاصطفاف الحاد الذي حدث لقوى الثورة بين طرفي هذه الحرب والمآزق الأخلاقية لبعضها نتيجة تحالفاته، لن تتوقف فاتورته الباهظة على طرف دون آخر، سينسحب ذلك خصماً على مستقبل التغيير في هذه البلاد.