كان الخطاب البلبوسي (الجماعة الكيزانية التي ترفع شعار بل بس بمعنى استمرار الحرب حتى القضاء على الدعم السريع) المسنود من المثقفين النافعين مسرفا جدا في تضخيم المسافة الاخلاقية بين الجيش والدعم السريع في اتجاه ان الوطنية تقتضي القتال مع الجيش لماذا ؟ لدحر المليشيا واستئصالها من جذورها واي حديث يرفع شعار لا للحرب نعم للتفاوض هو خيانة وطنية وتأييد مستتر للمليشيا!
بعد الهزائم العسكرية المتلاحقة وبعد تدمير البلاد وتعذيب المواطنين بالحرب لعشرة أشهر عاد البلابسة إلى أرض الواقع ، ورغم كل شيء ومن باب الحرص على إيقاف الحرب نقول لهم عودا حميدا ووحد الله كلمتكم حول السلام وانار الله بصيرتكم لنبذ الحرب نهائيا والتعاون في تحقيق سلام مستدام لا مجرد استراحة محاربين .
المشكلة ان النغمة الجديدة في خطاب البلابسة (جناح المنامة وشمس الدين الكباشي) خففت مدفعيتها ضد الدعم السريع إلى الحد الادني (متلازمة البجاحة وقوة العين والفجور الفاضح تساعدهم على فعل ذلك بارتياح) ، وصوبت هجومها الكثيف إلى عدوها الحقيقي ممثلا في القوى المدنية الديمقراطية المناهضة للحرب والداعية إلى استعادة مسار ثورة ديسمبر المجيدة وهذا هو مربط الفرس!
انهم يريدون سلام تقاسم سلطة بين العسكر بغطاء مدني مصنوع على أعين العسكر ، غطاء مدني مطيع ومدجن تماما لا يتحدث مطلقا عن إصلاح أمني وعسكري ولا عن ولاية وزارة المالية على المال العام ولا عن عدالة انتقالية ولا عن اعادة بناء للدولة السودانية على اسس جديدة تعصمها من الانزلاق للحروب مجددا !
إيقاف الحرب هو خطوة إلى السلام ولكن مجرد إيقاف الحرب دون دفع استحقاقات السلام المستدام ممثلة في خروج العسكر من السياسة وانهاء الوضعية الشاذة ممثلة في تعدد الجيوش عبر تأسيس جيش جديد ، جيش ليس هو الدعم السريع وليس هو الجيش الحالي الذي يسيطر عليه الكيزان بل جيش وطني جديد بعقيدة جديدة وقانون جديد وهيكلة جديدة ، ومنظومة أمنية وشرطية جديدة .
،ان بناء سلام مستدام في السودان لن يتحقق بدون تحول ديمقراطي وهذا ماتشهد به تجربتنا العملية الحافلة باتفاقيات السلام التي انتهت جميعها وبلا استثناء إلى عودة الحروب بصورة أعنف وأوسع! استنادا إلى تجربتنا المريرة هذه نحتاج لمنظور جديد يربط السلام عضويا بمشروع تأسيسي للدولة السودانية يجعلها غير قابلة لاشتعال حرب أهلية جديدة ، وهذه عملية تاريخية معقدة وطويلة لن تتحقق ضربة لازب ، ولكن يجب عدم التنازل عن ضبط البوصلة الوطنية باحكام وبعزيمة صادقة باتجاهها ، اي باتجاه السلام والديمقراطية والتنمية كحزمة واحدة ترجمة لقيم الثورة الخالدة: حرية سلام وعدالة.
بعد هذه التطورات في خطاب البلابسة ارجو ان يكون كل مغفل او مخموم او مخدوع ( غير شريك في المؤامرة) ان البلابسة الذين ظلوا يرجموننا بالحجارة تخوينا وتجريما طيلة هذه الحرب لم يفعلوا ذلك عقابا لنا لاننا حلفاء للدعم السريع وغطاء سياسي له حسب اكاذيبهم الفاجرة! فهم الان يجرجرون اذيال هزيمتهم النكراء لاهثين خلف عبد الرحيم دقلو يستجدونه سلاما منزوع الديمقراطية، وفي المستقبل القريب لا نستبعد اعادة تشغيل قصائد المدح في الدعم السريع التي سبق ان سمعناها من قيادات الجيش ومن اخوات نسيبة ومن عتاة الكيزان! ولو قبل الدعم السريع بخارطة طريقهم للسلام ممثلة في نبذ أجندة التحول الديمقراطي وتجريمها، والتخلص من قحت وتقدم ولجان المقاومة وكل القوى الديمقراطية بمن فيها بعض المثقفين النافعين، التخلص منها جميعا باستئصال عنيف قتلا او اعتقالا او نفيا سوف يتغنى ويتراقص الكيزان على أنغام ” شال البلا وزقلو محمد حمدان دقلو” نعم سيتراقصون لانهم منزوعي الحياء ولا يشعرون بوجود الشعب السوداني اصلا ناهيك عن ان يخجلوا منه ! ولانهم مدججين بآلة إعلامية فاجرة وماهرة في ترويج الفجور ! سيؤيدون ما اسموه بالمليشيا المتمردة في العلن ويعدون العدة في السر للتآمر مجددا واستئصال الدعم السريع الذي يسبحون بحمده في العلن ! لانهم لا يقبلون الشراكة ولا يعرفون سوى احتكار السلطة والثروة بشكل مطلق! سيواصلون معركتهم ضد الدعم السريع لازاحته والانتقام منه ومعاقبته على افشال انقلابهم وندخل مجددا في دوامة الحرب! فالغدر ليس جديدا عليهم ، فهم في سبيل معبودتهم السلطة ادخلو شيخهم الترابي إلى السجن وجعلوه يفترش كرتونة على الأرض!
ما هو الحل اذن؟
الحل لطي صفحة هذه الحرب وجعلها اخر حروب السودان هو فتح صفحة حقيقية للسلام المستدام وضبط البوصلة الوطنية باحكام في اتجاه سودان يتساوى فيه الجميع في ظل نظام ديمقراطي حقيقي وعدم المكابرة في قبول حقيقة استحالة الحكم العسكري في السودان.
أين موقع الكيزان من هذا السودان الديمقراطي ؟
مواطنون عاديون لا استئصال لهم على اساس انتمائهم السياسي والفكري مهما بلغت درجة الاختلاف معه ولكن بشرط التخلي عن استخدام العنف ، وفي هذا الإطار يجب تجريد تنظيمهم الأمني العسكري من أداة قهره للشعب السوداني واحتكاره للسلطة بالقوة ، فمن شروط الديمقراطية تحرير جيش البلاد من هيمنة الكيزان ، ومن شروطها عمليات دمج وتسريح للتخلص نهائيا من كتائب الظل وإغلاق حنفية المال المناسبة في كرش التنظيم الأمني العسكري الكيزاني ثلاثين عاما عبر معالجة الخلل البنيوي في جهاز الدولة الذي يسمح بتجنيب الإيرادات ووجود امبراطوريات اقتصادية متحكمة في ثروة البلاد القومية على رأسها الذهب لصالح تنظيم الكيزان او لصالح الدعم السريع.
هذه الحرب من نتائجها انها فككت جزء كبيرا من تمكين الكيزان العسكري والمالي، وكبدت الدعم السريع خسائر كبيرة في قواته وعتاده ، والخسارة الاعظم دفعها الشعب السوداني تقتيلا وتشريدا ونهبا للممتلكات وانتهاكا للاعراض وتدميرا للمنشآت المدنية والعسكرية المدفوع ثمنها من مال الشعب السوداني وإدخال البلاد في هذا النفق المظلم.
هذا الجرح الوطني الغائر الكبير والمؤلم يجب تضميده بعناية فائقة كي يلتئم ولا ينفتق مجددا ! وهذا لن يتم باي حلول استهبالية واحتيالية! بل يتطلب من الجميع دفع استحقاقات السلام المستدام من جميع الاطراف: الكيزان يجب أن يقبلوا بتفكيك ما تبقى من مركزهم الأمني العسكري ومليشياتهم ولا يعرقلوا بناء منظومة عسكرية وأمنية مهنية ووطنية لتحمي الوطن ولا تحكمه، لان طريق الحكم هو الانتخابات الحرة النزيهة التي تخوضها قوى سياسية على اساس تكافؤ الفرص، اما الانتخابات التي تجري بين قوى سياسية تعتمد على قدراتها الذاتية وقوى أخرى مدججة بسلاح الدولة ومخابرات الدولة ومال الدولة ومتحكمة في القضاء والنيابة العامة وفي مفوضية الانتخابات نفسها فهذه مسخرة ومهزلة مكتملة الأركان.
الدعم السريع يجب أن يقبل جديا بفكرة تأسيس جيش جديد مهني يأتمر بأمر قائده العام وقائده العام يأتمر بأمر القائد الأعلى ممثلا في رأس السلطة المدنية المنتخبة، بمعنى التخلي عمليا وليس بالاقوال فقط عن فكرة الجيش الموازي او فكرة وجود كتلة عسكرية تابعة للجيش اسميا ولكن ولاءها وتمويلها وقيادتها الفعلية خارج الجيش، وعليه ان يلتزم بمبدأ ولاية وزارة المالية على شركاته .
القوى المدنية الديمقراطية لم تشعل حربا ولم تسفك دم المواطن ولكنها مطالبة بتنظيم نفسها ورفع كفاءتها السياسية لخدمة الوطن المنكوب وعزل الانتهازيين والفاسدين في صفوفها والانفتاح على القوى الحية في المجتمع والتخلي عن منهج الشلليات ونزعات الاحتكار ومن ثم دفع استحقاقات الالتحام العضوي بالجماهير لان هذه الضمانة الوحيدة لابقاء جذوة قيم ومبادئ الثورة مشتعلة وطريق الديمقراطية مفتوحا والتقدم فيه مطردا.
وعلى القوى السياسية المدنية الساعية فعلا للسلام والديمقراطية ان تدرك أهمية وحدتها وان تعرف عدوها الحقيقي ممثلا في مشعلي الحرب من أجل استعادة الاستبداد ، وأن لا تستهلك طاقتها في الاطاحة ببعضها البعض على اساس اختلافات ايدولوجية او برامجية، فتكون مثل من يتصارعون على الوان الطلاء لمنزل لا يملكون قطعة الأرض التي سيبنى عليها! لان قطعة الأرض مغصوبة ومحاطة باسلاك شائكة ودوشكات ومدافع!
الحرب إعدام للحياة الطبيعية وضمنا المدنية الديمقراطية فهل من سبب أقوى من ذلك لتوحيد القوى المدنية الديمقراطية؟
وغياب الوجود الفاعل والمؤثر للقوى المدنية الديمقراطية معناه سلام ” استراحة المحاربين” الذي يحبس الشعب السوداني في خانة تجدد الحروب وتبديد طاقات وثروات الوطن في الاستعداد لاقتتال قواه العسكرية الطامعة في السلطة!
فهل تتخلف القوى المدنية الديمقراطية والقوى المناصرة للديمقراطية حتى داخل التكوينات العسكرية عن التعاون في سبيل إنقاذ الوطن من هذا المصير المظلم؟
ان مصلحة الشعب السوداني في السلام المستدام وليست في استراحة محاربين يستغلها كل طرف في التآمر على الاخر وهو مطمئن وواثق من تفوق قدراته في الفهلوة التي ستمكنه من ان يتغدى بخصمه قبل أن يتعشى خصمه به!
هذا الوطن الجريح المأزوم المهدد في وجوده، الوطن الذي تشرد مواطنوه وتجرعوا مرارة المذلة والهوان ما عاد يحتمل المساومات الرخيصة والابتذال الارعن لقضاياه المصيرية.