انسحبت نتائج الحرب الدائرة في السودان وهي تدخل شهرها العاشر منذ تفجرها الدامي في العام الماضي على مكونات البلاد الاجتماعية، من قبائل ومجموعات جهوية، وأبرزت إلى حيز التداول ما اصطلح عليه بالـ(الحواضن الاجتماعية) هو تعريف يربط بين المقاتلين وانتماءاتهم القبلية، التي أصبحت مستهدفة عسكرياً من قبل الطرفين في وجودها الجغرافي والإثني. وخلقت الحرب واقعاً وإن لم يكن غائباً عن التكوينات المؤسسة للدولة السودانية من أحزاب وأساليب حكم بعاهاتها التاريخية والسياسية.
لكن الحرب بين الجيش والدعم السريع، زادت من وتيرة الاحتقان الاجتماعي، باعثة لعللِّ في المجتمعات غير المتطورة، بفعل السياسات التي انتهجتها النخبة السياسية، بحثاً عن إسناد شعبي ومعنوي، لتحل القبيلة مكان مؤسسات الدولة المفترضة. وازدادت نزاعات النعرات القبلية مثيرة للكراهية في الحرب، خاصة ما واجهه الجيش من خسائر من قبل قوة يصفها بالميليشيات (الدعم السريع) غير منظمة شديدة الصلة بمكوناتها القبلية والجهوية، ولم يكن متاحاً مواجهة أخطاء السياسة، إلا باللجوء إلى المكون القبلي الذي عادة ما يكون الملجأ الأخير على طريقة الاستجارة بالقبلية بكل أعرافها التقليدية.
ولأن الدولة ومناصبها وما يتصل بها من نفوذ، وما ترمز إليه في الواقع القبلي والجهوي، وما يشكله هذا الواقع من وزن تمثيلي، ظلت تمارس انعكاساً لسياسات درج عليها الخطاب السياسي السوداني، تقسيمه لغنيمة «الدولة» وفق سياسة الترضيات، ذلك التعريف الذي لم يعد يثير حرجاً في الشأن العام. وترسخت هذه السياسات في بنية الدولة السودانية، دون اعتبارات لما قد تحدثه من تصدعات في مواطن اجتماعية أخرى، ما راكم سياسة خلقت طبقات سلطوية، تتدرج من قمة هرم السلطة في القيادة إلى القواعد الشعبية (الحواضن).
ثم إن الدولة السودانية كغيرها من كيانات سياسية حديثة التكوين، وموروثة عن نمطها الغربي نموذج الدولة القومية، أو مستزرعة في بيئة المجتمعات المستعمرة، بتوصيف دراسات ما بعد الاستعمار. وكانت إلى وقت قريب تتباهي بما ورثته من نظم إدارية وتعليمية من النموذج البريطاني، متفوقة على جيرانها في المحيطين الافريقي والعربي، وما أنجزته من تحديث مجتمعي أسهم في التحرير نسبياً من ولاء القبيلة إلى المؤسسات الوطنية، وأسهمت القوة الناعمة من فنون وآداب في تذويب اختلافاته العرقية والثقافية الحادة، لكن تداعي المشكلات والحروب السياسية الداخلية، وعدم الاستقرار السياسي وكل ما اتسم به التاريخ السياسي السوداني، تراجع خضوعاً لدعاوى عرقية بالية. وإذا كانت الحرب تشكل أقصى درجات البشاعة في فعلها العنيف، فقد أصبحت مسرحاً ظهرت عليه علل منظومات المكونات الاجتماعية كافة، التي وظفتها الدولة ضمن سياقها القبلي، وأبقت عليها دون تغيير حفاظاً على موازين تقسيم السلطة، وفق تراتبية محددة. فاستخدام سلاح القبلية سياسة جربت في عهد النظام السابق بطريقة واسعة استناداً إلى التباينات العرقية وانحيازاً إلى هوية متصورة في عقل الدولة الرسمي. وبرزت بالتالي القبيلة، مستخدمة ما ظل محتكراً للدولة كالجيوش والسلاح والارتباطات الخارجية، أي أن القبيلة أصبحت بمباركة أجهزة الدولة تنوب عن الدولة، إلا أنها واجهت الدولة نفسها على نحو ما يجري الآن. ومما زاد من حدة الانقسام القبلي الدعوات الانفصالية الكثيفة على أسس قبلية وجهوية، في الفترة التي أعقبت سقوط نظام البشير، ورافقت هذه الدعوات تبريرات لا تعول على الأبعاد الاستراتيجية في تصور الجهات الراغبة في الانفصال وما يجلبه الانفصال في بنية الدولة المتهالكة. فالأساس الذي يروج للانفصال القبلي يبنى على فرضيات حدود بيولوجية بالمفهوم النازي في التصنيف والاختيار! ودشنت حملات مستندة إلى المكون القبلي، كحملات الاستنفار والمقاومة الشعبية، وهي مسميات لها دلالته السياسية الأيديولوجية المرتبطة بجماعة النظام السابق وحواضنه الاجتماعية.
وعلى مدى حقب الصرِّاع الجهوي والسياسي، بين مركز الدولة السودانية وهامشها، الذي انتهى إلى صيغة تنازع ثقافي وسلطوي، بين مركز وهامش شكلتهما جغرافية جهوية، أفضت إلى واقع يتطور ضمن نسق ثقافي واجتماعي محدد، فالطرفان لا تنطبق عليهما شروط المماثلة من حيث التوازن، إلا في حدود المقارنة التي تسمح بها القيِّم في سطح الانتماءات والولاءات الرسمية، دون القدرة على تفاعل تقوده قوى فاعلة دون تدخل الدولة ـ طرف المركز- وهي مطالب بالكاد لا تجاوز أماني الساسـة الذّين لا يرغبون في خسارة طرف إيثاراً لمصالح ذاتية وأيديولوجية. فبالتحول التاريخي قادت الصيغة المتناقضة إلى إنتاج خطابين، يعبّر أحدهما عن مركز افتراضي يوحي بهيمنة مطلقة، وفق تصور مركزي استعلائي غذى رمزية التصورات الثقافية التي تشكل تصوره نحو الآخر معززاً بقوة سلطة مادية تمثلها مؤسسات الدولة.
تأسست الدولة السودانية في التصور الرسمي والشعبي الاجتماعي، كمصدر للقوة والامتياز الاجتماعي، في شبكة سلطة علاقات الجماعات المهيمنة، ولأسباب منها تاريخي ومنها سياسي تركزت سلطة مركزية الدولة في الوسط الجغرافي (العاصمة) محصنة جهوياً ضد تطلعات مكونات الأقاليم، التي توصف في أدبيات السياسة السودانية بالأقاليم المهمشة. وبالنتيجة تكونت حركات مسلحة مطلبية واجهتها الدولة المركزية بنظمها السياسية المختلفة من عسكرية وديمقراطية، فكانت النتيجة مواجهة التكوينات القبلية، ما عمق من الشعور بالظلامات التاريخية. وهذا المسلك في حسم «تمرد» الأقاليم المهمشة عسكرياً، وما أبرزه من فظاعات ستشكل لاحقاً أوصافاً مطابقة لجرائم الحروب من تطهير عرقي وإبادة جماعية والعقاب الجماعي على أساس القبيلة. الأمر الذي تفاقم في الحرب الجارية على مدى عشرة أشهر، فقد انتفضت الولايات بعد الاجتياح الذي حققته قوات الدعم السريع، بإخراج المواطنين الذي ينتمون إلى ولايات دارفور حيث منشأ قوات الدعم، على الرغم من أن الضرر الذي سببته الحرب في هذه الولايات، فاق أي ولاية أخرى.
فالحرب التي لا تماثل من حيث نتائجها الإنسانية المكلفة أي حرب سابقة، ستعيد تشكيل الكيان السوداني دولة ومجتمعا على ما تفرزه من وقائع تؤسس لكيانات جديدة، تحقيقاً لشعارات قائمة أو وليدة احتقانات جهوية تاريخية. فعملية السلام السياسية بمساراتها المختلفة لإيقاف الحرب ما زالت تقوم على أسس وحدود لم يعد لها وجود، ما يجعل من أي عملية للسلام مقوضة بفعل الاعتبارات الجديدة. وإلا كيف تفسر وضعية المناطق التي انتزعتها قوات الدعم السريع من يد السلطة المركزية، ممثلة في كيان الدولة وجيشها، وما هو موقعها في أجندة مرحلة ما بعد الحرب؟ أم تترك في سلطة حاضنتها الاجتماعية الإقليمية مكونة لكيان منفصلٍ تحت سلطة الدعم السريع، أو تكون علاقتها بالدولة المركزية على صيغة حكم فيدرالي أو كونفدرالية يحافظ على الكيان الرمزي للدولة، بمعانيه المتعددة وفق علاقات حكم جديدة وسودان جديد؟ ولا يملك تغير معادلة الحكم في محددات جغرافيا وسلطة السودان المحتملتين غير قوتين عسكريتين وسياسيتين، جيش يمثل ذراع الدولة، وقوات الدعم السريع وما بينهما من مجموعات سياسية لا تملك سلطة القرار، إلا بما تميله إرادة طرفي الحرب وبمنطق القوة وحده.
أن ترتد دولة بعد قرن من التأسيس على أسس مشتركة خلقت هوية تعريفية على تناقضاتها، وتتقلص حدود سلطتها، إلى وحدات تعد بالتصنيف الأنثروبولوجي وحدات اجتماعية صغيرة، لا يعني إلا فشل مشروع الدولة، النابع عن سياسيات قاصرة ونقص كفاءة في الإدارة وفقدان الحساسية التاريخية في فهم الدولة، كمشروع وطني يلزم التخطيط له الإحاطة بمشكلاته ومعالجتها على ضوء السياسات الراشدة؛ لا توظيفها في صراعات الدولة والسلطة.
كاتب سوداني#
نشر بصحيفة القدس العربي اللندنية# عدد اليوم 10 فبراير 2024م
nassyid@gmail.com