مقال من ارشيف عميد الصحافة السودانية محجوب محمد صالح نُشر في 22 أبريل 2019م في مجلة “الإنساني” الصادرة عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر:
السودان الأرض كان هنا منذ فجر التاريخ وعلى ثراه شبت قبائل وقامت مشيخات وإمارات وممالك وسلطنات. ولكن السودان الدولة بحدوده الجغرافية الراهنة مولود حديث لم يبلغ عمره قرنين من الزمان.
يمكن أن نؤرخ لمولد السودان الدولة بالغزو المصري العثماني الذي أطاح بمملكة سنار السلطنة الزرقاء عام 1821م فاجتاحت جيوش محمد علي هذه المملكة التي قامت في الجزء الأوسط من السودان واستسلم حكامها وسقطت عاصمتها سنار في أيدي الغزاة.
ونقل محمد علي العاصمة من سنار إلى مدني أولًا ثم إلى الخرطوم بعد بضع سنوات فأحال قرية الصيادين الصغيرة الواقعة عند ملتقى النيلين إلى عاصمة ومقر لسلطته الجديدة ثم ما لبث أن توسع شرقًا بعد خمسة عشر عامًا ليضم إقليم التاكا إلى ملكه ويفتح مجرى النيل الأبيض للملاحة لتمر البواخر متجهة جنوبًا نحو خط الاستواء.
وعلى مدى نصف قرن استمر التوسع بضم الجنوب أولًا ثم الاستيلاء على سلطنة دارفور بحيث لم يحل العام 1874 حتى أخذت حدود الدولة الجديدة تتشكل وتمتد إليها يد الحكم الجديد وأصبح للحكم الجديد قواعده وقواته المنتشرة في الأقاليم المختلفة ونشأت للحكومة مراكز ومكاتب حكمتها نظم وقوانين ولوائح جديدة تتسق مع مفهوم الدولة في القرن التاسع عشر، أي الدولة المركزية التي تجبي الضرائب وتحمي الأمن وتفتح الطرق للنقل والتجارة وتدير شؤون البلاد.
امتداد جنوبي لمصر
وقد اعتبر محمد علي إقليم السودان امتدادًا جنوبيًا لسلطته في مصر ولم يستقر الرأي عنده وعند أبنائه من بعده على أسلوب إدارته: هل يحكم من القاهرة عبر مركز واحد هو الخرطوم؟ أم يقسم إلى أقاليم يستقل كل منها بإدارته الذاتية ويكون مسؤولًا أمام السلطة العليا في القاهرة مباشرة ولذلك دخلت الإدارة المصرية في تجارب تتراوح بين هذا وذاك، فهي قد جربت اللامركزية الداخلية حينًا من الدهر فعهدت لشيوخ القبائل بمسؤولية إدارة شؤونهم وشكلت مجالس لهذا الغرض، فكانت هناك إدارات محلية أهلية، ثم عادت إلى مركزية بسيطرة تامة لممثلي الحكومة وجباة الضرائب في الأرياف، وبالمثل فإن العلاقة بين السلطة في القاهرة والإدارة في السودان شهدت تغييرت عديدة، فكانت تجنح طورًا لتوحيد القطر كله تحت حاكم عام واحد يعمل تحت إمرته مديرون مسؤولون عن الأقاليم وموظفون في مختلف الجهات ثم عادت تارة أخرى ليتم تقسيم السودان إلى إدارتين منفصلتين، ثم إلى ثلاث إدارات منفصلة على رأس كل منها مدير مسؤول أمام القاهرة.
بداية التحديث
ورغم هذه التغيرات ظلت هناك هياكل لإدارة حديثة للدولة ووجود فعلي للدولة وجيشها في مختلف المناطق وقامت الدولة بأعمال ذات طابع اجتماعي واقتصادي فهي مثلًا ابتدرت مشروعًا للتعليم الحديث فأنشأت أول مدرسة في الخرطوم عام 1848 لكنها لم تلبث أن توقفت.
وفي مرحلة لاحقة أنشأت خمس مدارس في الخرطوم وبربر ودنقلا والأبيض وكسلا، فكانت تلك هي بداية التعليم الحديث في السودان كما ربطت أنحاء البلاد بخطوط للتلغراف تمتد حتى القاهرة ودرست مشروعًا لإقامة السكك الحديدية- لربط أواسط السودان بسواكن الميناء على البحر الأحمر ولربط السودان شمالًا بمصر ولكن عدم توفر التمويل المطلوب حال دون ذلك ونظمت تجارة الصادرات فاحتكرتها أولًا ثم أطلقتها لتجار سودانيين وأجانب وفتحت قنصليات للدول الأوروبية في الخرطوم وأنشأت خطوطًا ملاحية استجلبت لها بواخر بخارية وأقامت ترسانة لبناء وإصلاح السفن في الخرطوم ودربت السودانيين على أعمال الورش في مجال صناعات الحديد والنجارة والميكانيكا واستجلبت مطبعة جديدة لطباعة أوراق الدولة ومنشوراتها ونظمت البريد عبر الجمال التي تنقله لشتى أنحاء السودان ومن السودان إلى مصر.
وهكذا بدأ جهاز الدولة الحديث- بمستويات القرن التاسع عشر- يتجذر رويدًا رويدًا في السودان، إلى أن هبت رياح الثورة المهدية مطلع العقد التاسع واستطاعت قوات الثورة أن تسترد الخرطوم في السادس والعشرين من يناير عام 1885م وأن تقضي على حكومة الاحتلال وتلحق الهزيمة بجيوشها وتنشئ على أنقاضها دولة سودانية وترث الكثير من مقومات الدولة الحديثة من العهد التركي ولكنها طوعته لمقاصدها وأهدافها وسياساتها وظل ذلك الجهاز يدير السودان خمسة عشر عامًا إلى أن سقط أمام الجيوش المصرية والبريطانية الغازية آخر عام 1898م، ليواجه السودان مرة أخرى عهدًا استعماريًا جديدًا كان الشريك فيه والذي بنى وأدار جهاز الدولة الحديث هم البريطانيون.