أن المتغيرات في الفكر الإنساني لابد أن تنعكس في طريقة التفكير وسط قطاع واسع من الشباب الداعم للتغيير. لذلك أحاول أن اعرض رؤيتين من مدرستين أيديولجيتين مختلفتين في طريقة التفكير، ربما تقربان عملية التقديرات السياسية بهدف فهم أختلاف في طريقة استيعاب الأحداث و خطاب الغرب من جانب، و فهم ثقافات متعارضة من جانب أخر..
في إحدى حواراتي مع الخاتم عدلان في القاهرة في النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين، بعد خروجه من الحزب الشيوعي، كان يعتقد أن القوى التي تنادي بالسودان الجديد هي قوى مختلفة عن القوى التقليدية التي قادت العملية السياسية منذ الاستقلال حتى انقلاب الجبهة الإسلامية القومية في يونيو 1989م، هذا الاختلاف أفرز مشروعين الأول المشروع التقليدي الذي يسعى للمحافظة على الموروث الثقافي السياسي المتعلق بعلاقة القوة و السيطرة.. و مشروع جديد يتشكل من خلال رؤى فكرية تحاول أن تخلق أرضية جديدة لها تنسيق بين القوة و أدوات السيطرة. و ربما يكون رؤية الخاتم لم تكتمل لرحيله السريع دون أن يرى المتغيرات التي حدثت على المستويين.. الأول الوعي الجديد الداعم لمسألة التغيير وسط شباب جديد لهم رؤية مختلفة، رغم أختلاف المدارس الفكرية التي ينطلقون منها، و الثاني التطور الذي حدث في وسائل الاتصال و جعل المعلومة متاحة و الكل قادر على أن يقدم أرائه بقوة. هذا المتغير تم حصاره في الفترة الانتقالية بقوى تتمشسك بالموروث التقليدي.
في حوارات كانت قد أجرتها ” قناة الشروق” مع الدكتور التجاني عبد القادر في برنامج “مقاربات فكرية”و حول تطرقه لقضايا الحرية و الديمقراطية قال عبد القادر (كنا نعبر عن قضية الحرية والعدل والديمقراطية حينما كنا في المعارضة, سنوات طويلة كنا نتحدث عن الحريات والعدالة وطيلة فترة نميري كان هذا هو الشعار .لكن بكل أسف في المراحل اللاحقة حينما تحولنا من المعارضة إلى مرحلة الحكم توارت هذه الشعارات وضعفت بعض الشيء وطغت قضايا أخرى وهذه واحدة من سلبيات الحركة الإسلامية ليس هناك اتساق بين مرحلة المعارضة ومرحلة الدولة( الدكتور التجاني يوازن بين مرحلتين في الطرح السياسي ” المعارض و الحكم” و الفارق في الممارسة.. و بعد ثورة ديسمبر 2018م و الخلافات التي حدثت و الفشل الذي أصاب الفترة الانتقالية. كتب الدكتور التجاني عبد القادر مقالا بعنوان ” الثنائيات المدمرة” يقول فيه (تمنيت في رسالة سابقة بعنوان (بصيص من الأمل) أن يتجاوز الجيل الجديد ثنائية “علماني/اسلامي” المدمرة. وقد استشكل البعض هذه العبارة، واستغرب آخرون صدورها عنى، وطلب آخرون مزيدا من التوضيح. وها أنا أعود لهذه المسألة فأقول إن ثنائية علماني/اسلامي تشير الى قريب مما بات يعرف في عالم الصفقات “بالمعادلة الصفرية”؛ والتي تعنى أن ما يناله هذا الطرف من أرباح سيعنى بالضرورة خسرانا مبينا على الطرف الآخر، وأن ما يحققه هذا الطرف من تقدم سيكون بالضرورة خصما من حظوظ الطرف الآخر، وهكذا تستمر العلاقة الصفرية بين الطرفين: خصومة لا تنقطع و”تدمير متبادل”، علاقة لا يحيا فيها طرف الا بإهلاك الآخر، علاقة لا توجد فيها منطقة “وسطى”، سواء على المستوى النفسي-الفكري أو على المستوى الاجتماعي-السياسي(هاتان رؤيتان رغم إختلاف المدارس الفكرية، فالذي يتمعن في محتوى الرؤيتين، يجد أن الهدف المقصود من كليهما؛ كيف تستطيع النخب السياسية الجديدة أن تتجاوز المراحل السابقة لتخلق واقعا جديدا يتجاوز الموروث. و الهدف من تجاوز الموروث، أن لا يعطيك نتيجة مثل النتائج السابقة.
هنا تكمن معضلة التفكير عند النخب السياسية، و هي عدم مقدرتها على تجاوز الموروث الثقافي السياسي، لكي تؤسس طريقة جديدة للتفكير العقلاني. و إذا حاولنا معرفة كيف تفهم النخب السياسية خطاب الغرب المتعلق بالقضية السودانية و كيفية التعامل معه.. تجد إن النخب واقعة في مشكلة فهم الآخر وفقا لثقافته، أنها تطالب الآخرين أن يتعاملوا مع القضية السودانية بذات الطريقة التي تفكر بها.. لكي لا نقع في التنظير.. نقدم أمثلة على ذلك من خلال الخطاب أو رؤية المحللين لتصورات الغرب.. بعد توقيع ” الوثيقة الدستورية” و تم تشكيل مجلس السيادة و الوزراء، كان قائد الدعم السريع برتبة فريق ” جنرال” و أصبح نائب رئيس مجلس السيادة دون أي اعترض من أي جهة. أي أصبح الرجل الثاني.. كان يستقبل سفراء الدول في القصر الجمهوري بهاتين الصفتين.. و عندما وقعت الحرب كان يشغل الوظيفتين، و عندما يقول الغرب ” صراع بين جنرالين و اللقاء بين الجنرالين” هذا بحكم الواقع الذي كانوا يتعاملون معه.. أما إغالة حميدتي و أعتبار قواته ميليشيا متمردة هذه تعتبر قرارات أفرزتها الحرب، و هذه لا تحدث جديدا في الرؤية السابقة.. الذي يتغير هو رؤية الجيش لهذه الميليشيا، و الذين يساندون الجيش، و ليس الغرب مجبرا أن يلتزم بها. و القضية الثانية “الحكومة المدنية” الاعتقاد أيضا أن البلاد كان فيها مجلسين ” سيادة و وزراء” بعد التغيير الذي حدث في 25 أكتوبر 2021م، تصبح الدعوة لرجوع لمدنية السلطة. و مدنية السلطة لا تعني رجوع أحزاب بعينها و لكن المطلوب الفكرة أن يكون على سدة الحكم قوى مدنية. هذا فهم الغرب في عملية التوصيف السياسي للمشكل.
هناك العديد من المتغيرات التي حدثت في الموقف الغربي من الحرب.. تشكل في موافقة الغرب على إبعاد البعثة الأممية من المشهد السياسي.. الثاني ذهاب السفير الأمريكي جون جودفري للقاهرة من قبل، و الالتقاء بقوى سياسية و تأكيده توسيع قاعدة المشاركة. كان هذا تحولا جديدا في الرؤية الأمريكية.. الثاني أن أمريكا تريد تغيير سفيرها و تبعث مبعوثا للإدارة هذه تتطلب رؤية جديدة بعيدة عن رؤية وزارة الخارجية التي كانت مناصرة قوى مدنية بعينها.. القرارات الأخيرة لمجلس الشيوخ الأمريكي تؤكد موقفها السالب من ميليشيا الدعم السريع.. هناك من يعتقد أن خطاب الغرب عن الحكومة المدنية مقصود منه إرجاع ” قحت المركزي أو تقدم” للسلطة و هذا فهم خاطيء.. و يعود هذا الفهم لحركة هؤلاء الخارجية، و اتصالاتهم مع الغرب في الوقت الذي عجزت فيه القوى الأخرى أن يكون لها نشاطا او اهدافا واضحة.. و هذا ما كان قد عبر عنه مالك عقار عضو مجلس السيادة عندما طالب القوى الأخرى أن تتفق على الحد الأدني و تتحرك كما يتحرك الآخرين. و لذلك إذا أرادت القوى السياسية أن تتعامل مع الغرب يجب أن تفهم ثقافة الغرب.. و لا تبني تحليلاتها وفقا لثقافتها الخاصة التي لا تفهم الأخر.. و نسأل الله حسن البصيرة.
zainsalih@hotmail.com