ورحل الأستاذ محجوب محمد صالح، فرحيله محزن ليس باعتباره عميداً للصحافة السودانية، وليس بإعتبار ما تركه من إرث، وإنما لأنه رجل أنفق عمره المديد في مهنة بلا وريث، ولا يكاد يظهر في أفقها من يمكن أن يتسنم عمادتها بعده أحد.
فرحيله قد جاء في لحظة تحول كبير تتلاشى فيه الصحافة التقليدية بسرعة فائقة لصالح (الصحافة الإجتماعية) في الفضاء الإسفيري المفتوح، وقد دفعتْ الحربُ في السودان بشدة نحو هذا التحول الي أن إستوى حالاً ومآلاً برحيل العميد الأخير. فالصحافة السودانية التقليدية وهي تلفظ آخر أنفاسها تميزت بأنها عليلة كليلة، باهتة تكاد تعدم اللون والطعم والرائحة. ينتظم سلكها حملة أقلام بلا مواهب ولا حصافة ولا رؤى، وليس بها مغريات تستثير الفكر وتحفذ عليه. كلما إستمع المرء لصحفي سوداني تبع اسمه بصفة (الكاتب الصحفي والمحلل السياسي) لا يشعر بأنه أمام صحفي محترف، وإنما يستمع في الغالب لحديث مرسل ملؤه الذاتية والانطباعات والمواقف السياسية المسبقة، كلام يحمل السامعين حملاً لوجهة النظر الشخصية، لا نحو سبر أغوار الظواهر وتفسيرها بحكم تسلسل الأحداث وما يربطها من منطق. الصحفي السوداني (في العموم) عبارة عن لافتة مضيئة معلقة على جدران مصالح تدل على (دكانة) ملءُ رفوفها مواقف منحازة لوجهة نظر مسبقة أو موقوفة على سلطة رسمية يدور في فلكها، فلا تكاد تجد للاستقلالية أثر أو ظلال، ولا للنظر الموضوعي وزن أو اعتبار. يضخمون أنفسهم بنرجسية مشتطة تستبيح المعقول من القول بكلمات من قبيل (حذرنا في هذه الزاوية أكثر من مرة . وقلنا من قبل وما زلنا نكرر.) مستوى التحصيل الذاتي في المعارف ضعيف ويقوم على اجترار معلومات مستقاة من مجالس الأنس التي يكتسب منها الصحفي أهميته بحسب “أهمية” المتآنسين ومكانتهم في تراتبية الهرم الاجتما- سياسي أكثر من البصيرة والتأمل بالدرجة التي لا تكاد تلمس فيها حالة تطور تنبئ عن مواهب صقيلة.. فلا فرق في ذلك بين الصحفي المهتم بالشأن السياسي والصحفي الرياضي، والمصيبة الأكبر أن من بينهم من يجمع بين الصفتين بطمأنينة مَن لا يخشى التشويش على المجال العام، فيحلل الرياضة بذات الطريقة التي يحلل بها السياسة.. كان الله في عون أهل السودان في صحافتهم وفي سياستهم وفي رياضتهم بل وفي بلدهم.. ورحم الله محجوباً الذي أنفق عمرا مديدا في مهنة ليس لها وريث.
د. محمد عبد الحميد
wadrajab222@gmail.com