يستدعي فضيلي جمّاع طُفولته الأولى، وباكر صباه بديار المسيريّة، وتحديدًا قرية “اللَّوْ”، التي تقع شمال شرق أبيي ، منطقة بحر العرب بحسب خُرط الانجليز والأتراك، وبحسب ما جاء في كتابات هندرسون والتُونسي، لا أبيي التي تبدو شاحبة في التباسات السياسيين اليوم. ويصف نفسه بأنّه إبن البادية بلا جدال، رغم تنقله في مدنٍ عديدةٍ: الأبيض، الخرطوم، موسكو، مكّة، مسقط، ولندن التي استقرّ بها العقدين الأخيرين.
الكتابة مشروع متواصلٌ للتنوير أنجز من خلاله الروائي والمسرحي، والناقد، والشاعر، فضيلي جمّاع، عددًا من العناوين. بدأ هذا المشروع منذ السبعينيات، وهو في التاسعة عشرة من عمره، طالبًا بكلية الآداب بجامعة الخُرطوم، حيث صدرتْ له روايته الأولى: “دموع القريةِ”.
تجربة العيش في المدينة بالنسبة لفضيلي الشاعر قاسية، وقد خلقت بالنسبة له ما أسماهُ بالنُّفور المرضي. وهي تجربةٌ تبدّتْ في الكثير من أعماله، بدءاً بروايته الأولى: “دموع القرية”، وفي ديوانه الأول (في أوديةِ الغُربة). ويُضيف بلهجةٍ حاسمةٍ، بعد أنْ يرفع كتفيه بفورةٍ شبابيةٍ لا تتناسبُ مع سِني عُمره، واضطراره الاعتماد على عُكّازةٍ بأن: “البداوةُ عاملٌ حاسمٌ وإيجابيٌّ في حياتي، وهي من علّمني قيمة الحرية، التي تقف عندي على رأس قيم الحياة كلّها”.
ثم مسرحية “المهدي في ضواحي الخرطوم”. أتبعهما بعددٍ من الدواوين الشعرية: “في أودية الغُربة”، “شارعٌ في حي القُبّة”، “الغناء زمن الخوف”، “المشي على الحبل المشدود”.
وأخيرًا، عاد فضيلي جمّاع إلى الرواية التي بدأ بها مشروعه الأدبي، فصدرتْ له قبل فترةٍ قصيرة، رواية “هذه الضِفافُ تعرفني”. أما في مجال النقد، فقد صدر له قبل عقدين كتاب “قراءة في الأدب السوداني الحديث”، و”الوجه والقناع في الثقافة السودانية”، الذي صدر الشهر الجاري..
صحيح أنّ أغلب شُهرة فضيلي جمّاع، دخلتْ عليه من باب الشعر، لكنه ينفي عن نفسه كونه شاعرًا في مقامٍ أول، بل يصف نفسه بجملةٍ واحدة: “أنا مخلوقٌ سارد”. ويُضيف: “أُحبُ القصة والرواية، منذ لحظات الطفولة والصبا الباكريْنِ، ونحن صبيانٌ نتحلّق حول والدتي، التي كانت تقول الشعر بعاميتنا على السليقة، وتروي لنا عشرات القصص، ذات النهايات السعيدة. قصصٌ استدعيها حتى الآن، وأستدعي معها بادية كردفان، بسهُولها المنبسطة، وأشجار الدليب والكُوك والتبلدي والعرديب والجوغان التي أكاد أشمّها وأنا أتذكّر كل ذلك”.
كما يُثبت فضيلي جمّاع، عودته مجددًا للرواية، بعد إصداره قبل عام روايته “هذه الضِفافُ تعرفني”، بعد مشوارٍ طويلٍ، استمرّ لسنواتٍ مع تأليف الشعر وإصدار الدواوين.
يقول عن هذه الرواية: “لها علاقة بمنطقة البحر، وعرب العطاوة الرُحّل، ويبدو أنّ العامية التي جاء بها الحوار في الرواية، وكذلك الجغرافيا كل ذلك صور لصيقة بهم ، وذاك ما أعجبهم، وأثار احتفاءهم بها.”
يُعلّق فضيلي جمّاع على إهماله الرواية لعقودٍ، ثم عودته لها: ” أنا لم أترك الروايةَ، ومن يقرأ شعري، يعرفُ أنّني قريبٌ جدًا من القصة والسرد. كما أنني طوال مسيرتي مع الشعر، كنتُ أكتبُ المسرحيات والدراما الإذاعية، مثل: “العصافير تُهاجر”، “كان زمان”، “الشمس والقطار”، و”دموع القرية”، روايتي الأولى التي حوّلتها لدراما إذاعية، وتمّ تقديمها عبر الإذاعة السودانية”.
ظلّ فضيلي جمّاع يتنقلُ طوال مشروعه الأدبي والثقافي الكبير، إلى جملة من الأفانين الإبداعية. بين الرواية، والشعر، والنقد، والترجمة، والمسرح. لكنّ خيوط كردفان، الأرض التي أنجبته، ظلّتْ تشدّهُ أحايينْ كثيرة، وظلّتْ الأيام التي قضاها هُناك، حاضرةً، بين أقبية المعتقلات التي كان من ضيوفها الراتبين والمنافي التي استغرقت حصيلة وافرة من عمره ، في أزمنة الحكمين الديكتاتوريين: فترة حكم جعفر نميري “1969-1985″، وفترة حكم عمر البشير “1989-2019”. فكتب في محبة كردفان، عددًا من الأغنيات، ثلاثةٌ منها، كانت من نصيب الفنان عبد القادر سالم، الذي تغنى بها: “كلّم قمارينا”. “رُدّي القِليب جيبي”، و”جيناكِي زي وزّين”.
يعود فضيلي، ليُبرّر تنقله بين العديد من الأجناس الأدبية، بكونه يعتمد التجريب بالأساس. لكن الرابط في هذا التجريب هو القلق. “قلق التعبير عن الوجود من حولي. بالرغم من أنّ الرواية والمسرحية هما الأقرب لوجداني”. ويعتقد فضيلي أنّ أكبر فائدةٍ جناها كانت من الأدبين الأمريكي والانجليزي، أما الروسي تحديدًا فيعتبره أدبًا إنسانيًا بالدرجة الأولى.
في ورقةٍ بعنوان: “الوجه والقِناع في الثقافة السودانية”، التي تطوّرت إلى كتاب صدر هذا الشهر، وجّه فضيلي جمّاع نقدًا كثيفًا لكتاب أستاذه البروفيسور عبد الله الطيب، “الأحاجي السودانية”. أجمل جماع نقده الكثيف في أنّ عبد الله الطيب، سمّى كتابه الأحاجي السودانية، في الوقت الذي انغلق فيه على أحاجي منطقة الشمال النيلي ووسطه، وأحجيةً واحدةً من شرق السودان، فيما أهمل بقية أقاليم السودان كلها.
ويرى فضيلي، أنّ “مركزية الدولة السودانية، منذ الخمسينيات من القرن الماضي، لم تر أبعد من أرنبة أنفها”. ويُضيف: “ليس هناك ثقافة سودانية واحدة. ولكن هناك ثقافات سودانية”.
يُناقش فضيلي جمّاع في عددٍ من أعماله وندواته ، قضايا اشتباك الثقافة بالسياسة، كونهما لا ينفصلان عن بعضهما البعض. ويقول بأنّه ينذر حياته وفكره لحرب العُنصرية أينما كانت وفي أي شكل تلونت.
انشغال فضيلي جمّاع بقضية الهُوية السودانية، هو ما قرّبه في فترةٍ إلى خطابات الحركة الشعبية لتحرير السودان، وحوّله إلى داعمٍ لأطروحة السودان الجديد. للدرجة التي اتهمه فيها البعض بالانتماء للحركة الشعبية لتحرير السودان. لكن فضيلي يشرح: “موقفي من الحركة الشعبية، ليس موقفًا وجدانيًا، وإنّما أخلاقي. التقي معهم في تفكيرهم نحو بناء السودان الجديد الذي أحلم به أيضًا، لكن هذا لا يمنع اختلافي معهم في أشياء كثيرة، أولها استخدام السلاح لتحقيق هذا الهدف”.
في عددٍ من أعماله وندواته يقول فضيلي جمّاع بأنّه ينتدبُ حياته وفكره لحرب العُنصرية، والتي يقطع بأنّ الجيل الجديد قادرٌ على تجاوزها، لأنّ الهُوية السودانية بيّنة، ومفهومة بالنسبة له. يقول: “أحارب الاسقاطات العُنصرية حربًا شعواء، وأفضحها باستمرار، وأعمل على تعريتها، وتقديم نماذج من العلاجات والحُلول”.
وفي إجابته على سؤال أخير حول رؤيته لمؤسسة الجلابة، يرد فضيلي قائلاً: “جاءت مؤسسة الجلاّبة كنتاج حتمي للرؤيةالقاصرة لدولة الأفندية أو ما عرف بالدولة الوطنية التي جاءت في أعقاب رحيل المستعمر. وعلى الرغم من أنّ مؤسسة الجلابة نشأت في الشمال النيلي، لكني لا أرى في تمددها ونموها جنسًا محددًا، ولا إثنيةً بعينها، لكنها – بالنسبة لي- سلوك ومنشط أقتصادي يمارسه حتى من هُم خارج جغرافيا الشمال النيلي. وهي قد بدأت بتحالفٌ التاجر والأفندي والإدارة الأهلية ثم تطورت لتشمل نخية المركز. ويضيف:(بالعكس، فإنّ الإنسان البسيط في الشمال النيلي قد دفع فاتورةً باهظةً لمؤسسة الجلاّبة، كما دفع الشرق والغرب. إنّ قراءة مؤسسة الجلابة لا ينبغي أن تخرج عن تحليلها كظاهرة إجتماعية-إقتصادية Socio-economic (. بغير ذلك فإننا سنقع في الخطاب التبريري والعنصري.)