كانت من عادة أبي الصحف أحمد يوسف هاشم أن يعقد جلسات فى بيته الجديد فى الخرطوم 2 الحي الراقي الحديث الإنشاء فى مطلع خمسينيات القرن الماضي، وهي شبه ديوانية يحضرها نخب من أهل الفكر والأدب والسياسة ولكن بصورة غير منتظمة، أذكر منهم على سبيل المثال المحجوب وحليم وشيخ المرضي، وأحيانا يأتيهم عبد الرحمن مختار شابا يافعا بأخبار الصحف قبل زواجه من أم سلمة بنت أخت أبي الصحف وقبل تأسيسه جريدته الصحافة. وتلك الجلسات مائدة فكرية سياسية كأنها وريثة منتدى الهاشماب الأم درماني التالد بيد أنه فيه قد تصنع الأحداث او بمشاركة فيها أو دعم من رجاله فى تلك الفترة.
وكنت من صبيان الأسرة ثم شبابها المحظوظين القلائل الذين شهدوا بعض تلك الجلسات لأن أبا الصحف كان يبتغي مشاركته خدمة ضيفه كعادة الأسر تلك الأيام لسببين؛ أولا لأننا أبناؤه، فأبو القاسم هاشم ابن شقيقته الفقيرة بنت صلحة محمد موسى ووالدي ابن خاله أحمد محمد موسى. وثانيا، كنا فى الخرطوم الأميرية القديمة (برج البركة الآن)ولا يفصلها من الجنوب عن مكتبه في صحيفته “السودان الجديد” إلا ساحة اب جنزير، وأصبح استصحابه لنا عادة كلما تيسر الأمر، واختزنت فى الذاكرة أشياء .
وأذكر منها جيدا وأنا ابن ١٩ عاما توافد عدد من رواد الجلسات إلى بيت أبي الصحف بعد إعلان الزعيم الأزهري فى البرلمان أنه سيعلن غدا الاستقلال من داخله، جاءوا ويشوبهم قلق ويحيط بهم توتر، ومن مداولاتهم للحدث وضح لي أنهم وأهل الخرطوم تعتريهم خشية من يوم غد اذا لم يؤمن إجماع وطني له ، وما يوم مارس ببعيد، ومما يضاعف الخشية أن المصريين لن يرضوا وقد يؤثرون على وحدة الوطني الاتحادي وإن البريطانيين يتخوفون من زعامة سودانية أفريقية والنذر تشير إلى انبلاج فجر ناصر ونكروما وسيكوتوري ونيريري والحبل على الجرار ، والخوف أن يلعبوا ورقة الكتلة الاستقلالية( الأمة)أو الكتلة الجنوبية. هكذا كانوا يحللون ويتخوفون وأجمعوا أن القرار المفتاح بيد الكتلة الاستقلالية، وإذا وقفت مع المقترح سلمت الجرة وإلا تحامى بهم الخائفون من زعامة الأزهري وتقع الفتنة.
وهرعوا من عصرهم يسعون لوأد الفتنة فى مهدها مثل الكثيرين غيرهم وقد سبقهم إلى ذلك رفيقاهم المحجوب وشيخ المرضى داهية العصر، وغيرهم كثيرون لأن الأمر جد خطير، والخرطوم خائفة تترقب ،وعلتها هموم، وتغشاها وجوم، وظن الناس ان احتمال الكارثة أقرب.
وعاد أحمد وصحابه سراعا ، ومن غاب عصرا، وهاماتهم مرفوعة، وجبينهم يشع نورا،وعلى شفاههم ابتسامات مطبوعة وهم يتداولون الخبر ، لقد فعلها الإمام القامة وقبل وصول الناس إليه وأعلن أنه صاحب مشروع استقلالي لا يهم من يعلنه الأهم ان يتحقق ، وأوفد السيد الصديق ومأمون شريف ونقد الله إلى الأزهري يتفقون معه على إجراءات إعلانه الاستقلال وأن يرجعوا إليه قبل مغيب الشمس وقد كان. فتنة وقى الله شرها.
وحكى لي الرواية ذاتها الأستاذ محمود الفضلي فى عام ١٩٨١م، وكان الفضلياب أزهرياب ،وقال لي كانت الناس متوترة قلقة خائفة مما يمكن أن يحدث فى الغد، وجاء وفد الإمام بالبشرى، وهدأت النفوس، واطمانت القلوب، فاستيقنوا من نجاح الإعلان وسلامة البلد. وأكد هذه الرواية مرة أخرى ابنه المهندس محمد الفضلي.
وتفشى الخبر وأمست الخرطوم فرحة راقصة منتظرة شروق الفجر الجديد. وهكذا أصبح الناس أمة واحدة لأن الإمام “أمة”، ولأنه هو السودان والسودان هو . فلا تعجب أن يجهش بالبكاء والدمع يجري وعلم السودان يرفع ، فمنه اغتصب وها هو اليوم يحلق.
إن هذا “الأمة” “الإنسان” هو “السودان” فى سائر ما فعل؛ فى بنائه طائفة الأنصار وعلمها هلال الشمال يعانق حربة الجنوب، وحزبه السياسي لكل سوداني يروم استقلال بلاده لأن شعاره” كل أنصاري حزب أمة وليس كل حزب أمة بأنصاري،” مستقطبا الجمع الغفير ممن نالوا حظا من التعليم الحديث من أبناء الأنصار وغيرهم.
ثم أن هذا السوداني “الأمة” فتح قلبه وداره يفك عن الناس كربهم حتى شاع القول “إن فاتحة أبو علوة تصرف عند أبو عبد”. وقصده من أراد اعتناق الإسلام ، وماقصة أبي صلاح والعبادي ببعيدة عن الأذهان. وغدت داره قبلة القصاد من المثقفين والأدباء والشعراء وأهل الفن سيما فى يوم ميلاده أول عيد الفطر ، وما خريدة المحجوب فيه وشطر مطلعها “العيد وافى ، فإين البشر والطرب” إلا ميثاق قيم الإمام “الأمة” جسده فى حياته فمتى يدرس !!؟ أم كتب علينا تقزيم قاماتنا “الأمم” “السودان” فى ثنائيات متضادة فهوت بنا غائرة حتى بلغنا الردى واستحى الردى أن إليه ننسب
.
ما أعظمك يا إمام، أيها “القامة” أيها “الإنسان” أيها “العنوان” أيها “السودان” أيها “الأمة” عانقناك فى سانحة فصعدنا السماء وأشرأبت إلى اللحاق بنا الأنجم
نيويورك ٢٠ فبرائر ٢٠٢٤
