كَأَنَّ المَوتَ لَم يَفجَع بِنَفسٍ
وَلَم يَخطُر لِمَخلوقٍ ببال
مضي اليوم ما يقارب الاسبوع علي رحيل شيخ العرب العالم الاقتصادي سعيد ابو كمبال زمام حجاجو خبير التنمية بالسودان والوطن العربي وما تزال العين تدمع والقلب منفطر حزنا عليه .
بكت عيوننا لفقد سعيد وحق لها ان تبكي فلمثل سعيد تبكي البواكي وليس لعين لم يفض ماؤُها عذر .
رحل سعيد بعد صراع مع المرض إستمر لاكثر من عام زاد من وطأته الظروف القاسية مرت بالسودان وجعلت التطبيب امرا صعبا والموت امرا سهلا.
سعيد تحمل المرض بصبر وجلد تزوره فيدهشك صبره وتحمله للمرض . كان يحتاج ان يغسل مرتين في الاسبوع بسبب فشل الكلي عن اداء وظائفها الطبيعية والظروف تجعل الوصول الي مراحز الغسيل صعبا فنقله ابناءه الي كسلا.
رحل سعيد ولم نرتوي بعد من مجالسته والمذاكرة معه والاستفادة من علمه الغزير وخبرته الثرة .
بلغ اكثر من سبعين من عمره لكن حياته بالنسبة لنا كانت كأنها ومضة قصيرة .
رحل في زمن زاد حزن السودان وتكالبت المصائب علي اهله حتي اصبح كما قال المتنبي :
نَصيبُكَ في حَياتِكَ مِن حَبيبٍ
نَصيبُكَ في مَنامِكَ مِن خَيالِ
رَماني الدَهرُ بِالأَرزاءِ حَتّى
فُؤادي في غِشاءٍ مِن نِبالِ
فَصِرتُ إِذا أَصابَتني سِهامٌ
تَكَسَّرَتِ النِصالُ عَلى النِصالِ
وَهانَ فَما أُبالي بِالرَزايا
لِأَنّي ما اِنتَفَعتُ بِأَن أُبالي
ما عدنا نهتم بالرزايا التي تصيبنا في السودان فقد تكاثرت و تكسرت نصالها فوق بعضها .
الجروح عديدة لكن جرح سعيد مختلف والنصال التي اصابنا بموته اكثر حدة واشد ايلاما.
سعيد ابو كمبال هو احد خبراء الوطن العربي في مجال الاقتصاد والتنمية وهو رجل متنوع الثقافة ثاقب النظر صادق القول متصالح مع نفسه متواضع بسيط في مأكله وملبسه .
رغم صلة القرابة الرحمية التي تجمعني به لم اعرفه عن قرب الا بعد عودته الاخيرة من الاغتراب وتفرغه للعمل الفكرى وخدمة الاهل حيث كنت كثير الزيارة له في منزله بالفتيحاب اصاحبه الي جلسات المذاكرة بنادي اساتذة جامعة الخرطوم و اشارك معه في المنتديات العامة وورش العمل واللقاءات التي تخص الاهل فعرفت كثير مما كنت اجهل من خصاله.
تزامن اصابة سعيد ابو كمبال بالفشل الكلوي مع اصابة الراحل حسين كرشوم بنفس المرض ففكرنا في علاجهما بنقل كلي وتجاوب الكثيرون لكنه رفض الفكرة وقال انه سيستمر في الغسيل حتي ياخذ الله امانته ولم يقبل كلي من احد ناقشته في ذلك طويلا انا والاخ خيري القديل
واخرين فاصر علي رأيه فكر ابنه دكتور حازم نقله الي السعودية حيث يعمل لكن ذلك لم يتيسر وبعد اشتداد الحرب في امدرمان نقله ابنائه الي كسلا في صحبة بن اخيه كمبال “سعيد” وابن عمه امين وبناته ندي وهبة وكن في حركة دوؤبة بين كسلا وبورسودان للحصول علي تاشيرة لنقله الي مصر لمواصلة العلاج لكن امر الله نفذ وصعدت روحه الي بارئها بكسلا يوم الاربعاء الحادي والعشرون من فبراير عام اربعة وعشرون والفان
وإذا المنيّة أنشبت أظفارها
ألفيت كلّ تميمة لا تنفعُ
مات سعيد بكسلا ونحن بعيدون عنه لم نشهد تشيعه ولم نر قبره ولم نجلس في مأتمه فزاد ذلك من اسانا وحزننا.
الشكر لابن عمه امين وابن اخيه كمبال “سعيد” ولاهل كسلا لقيامهم بالواجب نيابة عن الاسرة و سيظل قبر سعيد بكسلا يؤكد قول الله تعالي:
﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ }
يظل قبر سعيد بكسلا يبكيه كل عابر من عارفي فضله .
يَمُرُّ بِقَبرِكِ العافي فَيَبكي
وَيَشغَلُهُ البُكاءُ عَنِ السُؤالِ
اما انا فسابكي القبور التي اراها من حولي هنا كما قال متمم بن نويرة في رثاء اخيه مالك :
لقد لامني عنـد القبور على البكا
رفيقي لتَذراف الـدموع السوافـكِ
فقال: أتبكي كـــل قبر رأيته
لقبر ثوى بين اللــوى والدكـادك؟
فقلت له: إن الشجـا يبعث الشجا
فــدعني، فهذا كـــله قبر مالك
هذا العام هو عام حزن في السودان رحل فيه كثير ممن يغلو ويعز علينا فراقهم لكن
” فتي ولا كمالك”
و “مرْعىً ولا كالسَّعْدانِ”
رحل الكثيرون هذا العام لكن رحيل سعيد كان بالنسبة لنا فاجعا
أَفجَعُ مَن فَقَدنا مَن وَجَدنا
قُبَيلَ الفَقدِ مَفقودَ المِثالِ
يُدَفِّنُ بَعضُنا بَعضاً وَتَمشي
أَواخِرُنا عَلى هامِ الأَوالي
رحل سعيد وترك كثير من الارث والعطاء اتمني ان يتمكن اولاده واصدقاءه وعارفي فضله من جمعه وطباعته وشكرا لحمدوك لاعترافه باستاذية سعيد ابو كمبال وفضله
العزاء لابنائه دكتور حازم الذي نشهد انه شديد البر بوالده اتاني في كادقلي وطلب مني ان ايسر له العمل في جنوب كردفان لان والده طلب منه ان يؤدي ضريبة الوطن الصغير وفعلا عمل د.حازم طبيبا في كل من ابي جبيهة وكادقلي تلبية لرغبة والده قبل ان يسافر للعمل في السعودية .
د.حازم سعيد شاب متدين عميق الثقافة شديد البر بوالديه ربنا يتقبل منه بره . التحية لبناتي هبة وندي لاعتنائكم بوالدكما وشكرا اخي امين وابن اخي سعيد كمبال لقيامكم بالواجب.
اللهم ارحم سعيد وارحمنا اذا ما صرنا الي ما صار اليه