سأل إعلامي محجوب محمد صالح، رئيس تحرير جريدة الأيام، إن كان بدأ اشتغاله بالصحافة بعد فصله من المدارس العليا. فقال لا. وحكى له علاقة له بها منذ المدرسة الوسطى، وهو دون الـ15 سنة من عمره، حين فتحت صحيفة “صوت السودان” صفحة للطلاب بها حررها سعد الدين فوزي الطالب بالمدارس العليا آنذاك ومؤسس كلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم لاحقاً. فاستجاب محجوب لدعوة فوزي للكتابة بمقال انتقد فيه معلمي المدارس الأولية لأنهم جعلوا القبول لمدارسهم من بين تلاميذ خلاوي القرآن بـ”الإنترفيو”، لا بالجلوس للاختبار، كما جرى العرف قبلاً. ورأى محجوب في ذلك منفذاً للمحسوبية والمجاملة. وبعد النشر اشتكته المدارس الأولية لناظر مدرسته فقرر جلده 40 جلدة. الإعلامي: وبدأت هكذا؟ محجوب: وهكذا إلى يومنا. يصح في وقفة محجوب الغراء الطويلة في “مهنة النكد”، كما يقال، قول الطيب صالح عن جده في روايته “موسم الهجرة إلى الشمال” إنه كشجيرات السيال في صحارى السودان سميكة اللحى حادة الأشواك تقهر الموت لأنها تسرف في الحياة”. فمحجوب شجيرة سيال عاش بحب للوطن والمهنة يقاوم عزيف صحارى النظم الديكتاتورية التي لم يفق السودان من واحدة حتى ركبت عليه أخرى. إذا كان محجوب تهيأ صحافياً خرج للحق منذ نعومة أظافره فقد خرجت له الديكتاتوريات لـ53 عاماً من عمر استقلال السودان البالغ 68 سنة تذعه عنه، وتكمم قلمه كناظر مدرسته.
فأعلنها نظام الفريق عبود (1958-1964) صريحة “لا تكتبوا أي شيء ضد الحكومة”. وتتالت على الصحف القائمة المحرم عليها الكتابة عنها حتى شملت “نشر أي تعليق أو نقد لاعتراف إثيوبيا بإسرائيل” أو “الكتابة عن كيشو ولجنة نادي الهلال وأزمة نادي الهلال”. وأوقفت “الأيام” عن الصدور مرة حين طالبت بنشر وقائع محاكمة الزعيم العمالي الشفيع أحمد الشيخ. ووبخوا رئيس تحريرها في مرة أخرى بحضور السفير الأميركي حين نشرت شئياً محظوراً عن كوبا. وأنذرتها الحكومة مراراً بعد نشر مانشيتات مشاغبة للنظام مثل “طار الرئيس عبود ورفاقه إلى إثيوبيا” أو “حريق في وزارة الاستعلامات”. ورمت الحكومة بفكرة تأميم الصحافة في سياق كراهة حرية التعبير وتنازلت عنها، ولكن ليس قبل إصدار تعديل لقانون الصحافة قضى برفع العقوبة على من لا يدلي بمصدر خبر.
ومع ذلك انطوى محجوب على وزر علق به لشبهة اشتراكه في تأميم الصحف في أول عهد نظام الرئيس جعفر نميري (1969-1985). وعرض محجوب لملابسة تلك الهنة المهنية في حديث طويل مع الطاهر حسن التوم في برنامجه الموفق “مراجعات”. فقال إن النظام كان بيت النية على تأميم الصحافة وكون لجنة عملت بسرية لتلك الغاية. وكان هو وزملاؤه من جانبهم، وقد عرفوا انفعال النظام بالناصرية وسياساتها وقوة القوميين العرب في دوائره، قد تصالحوا مع دنو نهاية الإصدار الحر للصحف. فعرضوا على فاروق حمد الله، عضو مجلس الانقلاب وزير الداخلية، فكرة تحول الصحف إلى شركات مساهمة عامة، والذي قبل بدوره الفكرة.
وكان القوميون العرب من جهتهم بيتوا النية على تأميم الصحف. وكان رجل سرهم عمر الحاج موسي وزير الاستعلامات. وسبق عمر بعرض مشروع تأميم الصحافة على الرئيس نميري وصدق عليه. وعرض النظام على محجوب أن يكون رئيساً للمؤسسة السودانية للصحافة التي ستتولى إصدار الصحف. وعرف محجوب أن دوره من هناك ورائح هو إنقاذ ما يمكن إنقاذه. وقال لهم إنه لا يريد أن يعلق وضر التأميم باسمه. ونصحهم بالانتظار حتى قيام تنظيمهم السياسي المنتظر ليتولى إصدار الصحف. فإن صدرت الصحف من المؤسسة قبل قيام التنظيم السياسي صارت صحفاً حكومية ماسخة. وأضاف أنه سيقبل برئاسة المؤسسة أن اقتصر دورها على تصفية الدور القائمة، وحصر ممتلكاتها، وتعويض أصحابها، وتأمين حقوق الصحافيين. وهو ما قامت به لجنته على وجهه الأتم.
نوهت دوائر محلية وعالمية بخدمة محجوب الطويلة الممتازة للصحافة. فانتخبته الحكومة الانتقالية في 1956 ليكون السكرتير الإعلامي لمؤتمر المائدة المستديرة الذي انعقد بحضور أفريقي وعربي لمناقشة مسألة جنوب السودان بعد ثورة أكتوبر 1964. وكرمه الخريجون في انتخابات 1965 بمقعد في دوائرهم الـ15 في الجمعية التأسيسية. فحظي بالمركز الخامس عن حزب المؤتمر الاشتراكي مؤيداً من قبل الحزب الشيوعي. وحصل على 5098 صوتاً وكانت أعلى الأصوات ما ناله حسن الترابي. وحظي محجوب بدرجات علمية عليا وجوائز مهنية غالية. فمنحته كل من جامعة الأحفاد وجامعة الزعيم الأزهري الدكتوراه الفخرية في عامي 2002 و2006 بالتتابع. وحصل على جائزة المنظمة العربية لحرية الصحافة وجائزة منظمة فريدريش إيبرت لحقوق الإنسان عام 2004، وجائزة القلم الذهبي من المنظمة العالمية للصحافة ومقرها باريس عام 2005، وجائزة مؤسسة نايت والمركز الصحافي العالمي واشنطن في عام 2006. وشغل منصب رئيس جمعية الصداقة السودانية الشمالية الجنوبية. واختارته لجنة تخليد ذكرى الطيب صالح “شخصية العام” في فبراير عام 2013. وعلاوة على ذلك حصل على جائزة حقوق الإنسان للعام 2018 من قبل الاتحاد الأوروبي.