بروز الخصائص والملامح الجهوية والمناطقية ذات الشخصية والنكهة المتفردة والمتميزة داخل اطار الاداب الوطنية الخاصة بكل قطر، أمر ثابت ومسلم به بلا ادنى ريب. فمثلاً ما يكتبه روائي مصري اصله من النوبة، يختلف بالضرورة عما يكتبه روائي آخر من الإسكندرية، وثالث من سيوة ان وجد، ورابع من بورسعيد وهلم جرا.
اما بالنسبة للاداب الغربية، فقد ظهر في مجال نقد الرواية في الولايات المتحدة مثلاً، مصطلح ” اللهجوية ” او ال Colloquialism ، وتعني الميل إلى ابراز الملامح الجهوية والمناطقية ، وخصوصا الأنماط اللهجية المميزة في الرواية. ويضربون لذلك مثلاً برواية: مغامرات هكلبيري فِن The Adventures of Hucleberry Finn للروائي الأمريكي مارك توين، التي عمد المولف من خلالها إلى استعراض نماذج من انجليزية الأمريكيين السود بصورة واضحة.
وهاهنا في السودان، من المؤكد أن أشعار كل من محمد طه القدال، ومححوب شريف، و محمد الحسن سالم حميد، و محمد ود بادي مثلاً، تتمايز وتختلف عن بعضها بعضا، وخصوصا من حيث القاموس , والصور، والأخيلة ، والروح العمومية، وذلك تبعاً للمناطق والبيئات المحلية التي يعبر عنها ويصور ويصدر عنها كل واحد من هولاء المبدعين الثلاثة ، مثل اختلاف روايات الطيب صالح: عرس الزين وبنر شاه ضو البيت عن روايات إبراهيم اسحق أبراهيم: الفجوة في حوش كلتوم، ووبال في كلمندو ، وروايات عبد العزيز بركة ساكن: الجنقو مسامير الارض، وامرأة من كمبو كديس على سبيل المثال. هذا مع العلم بان بركة ساكن، هو من ابناء منطقة القضارف بشرق السودان، فيها نشأ وترعرع، ولكنه ظل وفياً لجذوره الثقافية في موطنه الأصلي: دارفور.
وبهذه المناسبة، لعله يحق لنا ان نتساءل: هل هنالك ما يمكن ان نطلق عليها رواية كردفانية؟ واذا كان ذلك كذلك ، فما هي ميزات تلك الرواية وخصائصها وملامحها المميزة ؟.
وثمة سؤال آخر: هل كل من ولد وعاش في كردفان يكتب رواية ” كردفانية ” بالضرورة ؟. نقول هذا لان هذا المصطلح ” كردفاني وكردفانية ” هذا لعله يذكرنا بذلك التيار او النمط الخاص من الغناء ، الذي ظهر وازدهر بقوة على الساحة الفنية في السودان في مطلع سبعينيات القرن الماضي، وهو ذلك النمط الخاص بإيقاعاته المميزة ، المتمثلة في إيقاعات المردوم والجراري والتوية، وأنغامه وموسيقاه التي تقرب شيئا ما من المقامات والأنغام العربية ، المختلفة بصورة واضحة عن نمط الموسيقى والأنغام السودانية التقليدية التي تقوم على ما يسمى بالسلم الخماسي وفقاً لاصطلاح الموسيقيين. ذلك لعمري هو النمط الغنائي الذي كان رواده مطربون مثل الاساتذة: إبراهيم موسى أبّا، وعيد القادر سالم ، وصديق عباس، وعبد الرحمن عبد الله.
ذلك بان هنالك مطربين كردفانيي الاصل والمولد والنشاة، ظهروا تاريخيا قبل من اصطلح على تسميتهم لاحقاً بالفنانين الكردفانيين، ولكنهم كانوا يؤدون أغانيهم على منوال التيار العام للموسيقى والأنغام السودانية الخماسية مثل خليل إسماعيل وصالح الضي وثنائي النغم وام بلينة السنوسي مثلا. ومن قبل هؤلاء جميعهم، كان الشاعر الكبير محمد عوض الكريم القرشي بالأبيض، يؤلف الاشعار الغنائية ويلحن بعضها احيانا ، ويهديها للمطربين منذ الأربعينيات كاحمد المصطفى وعثمان الشفيع والخير عثمان، وكل ذلك كان في اطار المجرى العام للسلم الموسيقي والنغمي الخماسي في السودان.
وهنا، يحق لنا ان نلاحظ ان الروائية الكردفانية ملكة الدار محمد عبد الله ١٩٢٠ – ١٩٦٩م، تلك الرائدة ليست على المستوى الجهوي فحسب ، وانما على مستوى السودان باسره ، مؤلفة رواية ” الفراغ العريض ” ، التي يعدها نقاد الادب ومؤرخوه في السودان اقدم رواية تاليفا في السودان على الاطلاق، لانها كتبت في عام ١٩٤٨م ، قد جاءت روايتها تلك في سياق التيار العام للسرد السوداني ، ولم تتميز بملامح جهوية معينة. ولعل مرد ذلك ان تلك الرواية قد كتبت بلغة عربية فصيحة، لم يشبها اي شي من اللهجة العامية في اي فصل من فصولها.
اما الاديب والشاعر الكردفاني فضيلي جماع ، الذي هو نفسه احد شعراء الاغنية الكردفانية بملامحها التي ألمعنا اليها آنفا، بقيادة رائد تلك الكوكبة من الشعراء الاستاذ عبد الله الكاظم، إلى جانب بضعة شعراء آخرين مثل: قاسم عثمان بريمة ، ومحمد حامد ادم ، ومحمد مريخة، لا ندري ان كانت روايته ” دموع القرية ” التي صدرت باكرا في عام ١٩٧٠ ، وهو ما يزال حينئذ طالباً بالسنة الاولى بكلية الاداب بجامعة الخرطوم ، ولم تتح لنا فرصة الاطلاع على تلك الرواية مع الأسف ، لا ندري ان كانت تحمل اية ملامح ” كردفانية ” مميزة خصوصا على مستوى اللغة على نحو ما ظل يفعل الاستاذ ابراهيم اسحق مثلا في رواياته ذات الملامح الدارفورية التي لا تخطئها العين ام لا؟
ثمة روائي كردفاني من ابناء مدينة الأبيض مجيد ولكنه مغمور نوعاً ما اسمه إبراهيم عبد العزيز، ظهرت له رواية رومانسية ميلودرامية مؤثرة للغاية، اطلعنا عليها ونحن صبية إيفاع خلال النصف الاول من سبعينيات القرن الماضي عنوانها ” لا تؤرقي صمتي “. تحكي تلك الرواية، قصة حب بين طالب وطالبة بجامعة الخرطوم، جرت أحداثها قبيل وأثناء اندلاع ثورة اكتوبر ١٩٦٤م، حيث قضى ذلك الطالب العاشق نحبه من جراء اصابته بطلق ناري اثناء احدى المظاهرات والاحتجاجات التي ارتبطت بتلك الثورة المجيدة. ولكن ملامح الجهوية والمناطقية الكردفانية بالخصوص، لم تكن تسم تلك الرواية حقا، رغم ان مؤلفها من الآبيض كما اسلفنا، حيث جاءت من حيث اللغة والروح العامة ، متوافقة مع التيار العام للثقافة السودانية المدينية،( حاشية: حبذا لو التفت صديقي مزدوج الانتماء بين كردفان والجزيرة اسامة الريح، صاحب ومدير دار المصورات للنشر ، إلى اعادة طباعة ونشر روايتي: دموع القرية لفضيلي جماع، ولا تؤرقي صمتي لابراهيم عبد العزيز ).
اما الروائي الكردفاني الاخر، الدكتور ابكر ادم إسماعيل، فرغم احتفائه بجماليات السرد الروائي وحرصه عليه، لجهة توخي مقتضيات السلاسة والتشويق وخصوصاً الواقعية في العمل الروائي عموما، الا انه فيما يبدو، كان معنياً أكثر بالشأن الاجتماعي والسياسي، والتمايز والصراع الطبقي بصفة عامة، باكثر من اهتمامه بالجوانب ذات الصلة بابراز الملامح الأنثربولوجية والفولكلورية واللغوية المميزة والخاصة بمنطقة ما او جهة ما. ولذلك غلب على روايته ” الهروب إلى المدن المستحيلة ” مثلاً، الاحتفاء بافكار وموضوعات ذات طبيعة مدينية وسوسيولوجية عامة بالأحرى ، مثل: الفقر والتهميش والظلم والتشرد الخ. ويشترك مع الدكتور ابكر في هذا الملمح الرؤيوي العام في تقديرنا ، وبذات الحساسية نوعاً ما، روائي شاب آخر مجايل له ، هو منصور الصويم في روايته ” ذاكرة شرير ” مثلا.
هنالك لحسن الحظ موجة جديدة وواعدة من الروائيين الكردفانيين المعاصرين، نذكر منهم على سبيل المثال: سيف الدين عبد الحميد وهو ضابط اداري وشاعر وصحفي ومترجم غزير الانتاج مع التجويد، له رواية ” فلاة ام قناطير “. وام قناطير قرية قديمة من قرى شرق دار حامد بشمال كردفان، كانت في السابق احدى محطات طريق القوافل التجارية الواصلة بين سلطنتي دارفور وسنار، وكانت تقع قريبة من بلدة ” ام سيالة ” الحالية، ولعلها أسميت ام قناطير لكثرة القناطير، اي تلك الأبراج الترابية المخروطية الشكل، التي يصنعها النمل او الأرضة في فلاتها.
وهناك من الروائيين الكردفانيين الجدد، الدكتور آدم كمندان جوغان مؤلف رواية ” دروب الطيش ” وغيرها من الروايات، والزين بانقا من ابناء مدينة النهود، الذي حاز على جائزة الطيب صالح في الرواية قبل بضعة أعوام، عن روايته ” مخمسات ضوينا الأعرج “. وبمناسبة ” مخمسات ضوينا الاعرج ” هذه للزين بانقا، فإنه يظهر جلياً احتفاء هذا الروائي بالثقافة الكردفانية البحتة، وحرصه على ابراز ملامحها ومشخصاتها لهجة وفولكلوراً من خلال سرده الروائي على نحو معجب ومثير للانتباه حقا.
يتجلى ذلك بوضوح في عناوين بعض رواياته التي صدرت حتى الآن وخصوصا روايته ” مخمسات ضوينا الأعرج ” التي اشرنا اليها آنفا، وكذلك روايته الأخرى ” تبلديات كوكو القصّاري “. فهذا العنوان ” مخمسات ضوينا الاعرج ” من شأنه ان يستثير خيال اي كردفاني تحديدا ، لان المفردة مخمسات هذه، هي مفردة شديدة الخصوصية في لهجة كردفان بالتحديد. فالمخمس هو وحدة قياس محلية لمساحة الارض الزراعية، وقيل انه عبارة عن مساحة مستطيلة طولها ثلاثين عوداً وعرضها عشرين عودا. والعود طوله سبعة اذرع، هكذا عرفه لي الوالد رحمه الله. اي ان المخمس يساوي اكثر قليلا من فدانين. ثم تامل هذا الاسم العلم ” ضوينا “، فانه هو الاخر ينم عن البيئة الكردفانية والثقافة الكردفانية تماما ، وخصوصاً اسماء الأعلام التي تميز شمال كردفان خاصة بصورة ملحوظة، ومن بينها تلك الاسماء المشتقة من مادة أضاء يضيء مثل: ضوينا والضو والضي والضواها وضي النور وضيين.
اما ” تبلديات كوكو القصاري “، فانه ايضا عنوان يدل على البيئة الكردفانية منذ الوهلة الأولى. ذلك بأن التبلديات هي اشجار كردفان الشامخة، ورمزها الخالد في شمالها وجنوبها ، ولقد كانت شجرة التبلدي شعاراً لمدرسة خورطقت الثانوية منذ انشائها في عام ١٩٤٩م. وكذلك الاسم ” كوكو ” فإنه اسم كردفاني صميم، اكثر الناس احتفاءً به ، هم بطون مختلفة من قبائل النوبة بجنوب كردفان، حيث درجوا على إطلاقه على المولود الاول من الذكور عادة، ولكن الاسم انتشر في عامة كردفان بل انتشر منها إلى سائر ارجاء السودان، حتى لم يعد من المستغرب ان تجد شخصا من نهر النيل او الشمالية او الجزيرة او البطانة اسم احد اجداده ” كوكو “.
اما الصفة ” القصّاري ” اي القصير القامة، ولا يخلو هذا النعت من شيئ من سخرية وتهكّم، فانها درة هذا العنوان الجذاب حقا. ذلك بانها تنطوي على طرافة وتكثيف دلالي واضحين ،،يحملان على الضحك إبتداءً من تأثير الصورة الكاريكاتورية التي يرسمها القارئ في خياله لكوكو القصاري هذا، حتى من قبل أن يقف فعلاً على خبر تبلدياته تلك.