ما يُحكي عن اسرة مادبو وتاريخها، مشرف في ظروف تطور الدولة السودانية، وبصفة خاصة المهندس آدم موسي مادبو. وذلك من مصادر كانت لها احتكاك بمهنته، من خلال عمله في مصانع الدولة. وايضا من خلال عطاءه السياسي، ويكفي انه كان يتصدى للمرحوم الصادق المهدي ويختلف معه. ومعلوم ان اتيان امر كهذا في الاحزاب ذات المنشأ الطائفي والعقائدي، هو بمثابة اقتراف كبيرة من الكبائر. وتاليا يتعرض صاحبها لمحنة من الاصدقاء قبل الاعداء! ولذلك لا يقدر عليه إلا اولو العزم من القيادات السياسية الشامخة. ويبدو ان ثمنها الابتعاد في آخر المطاف.
ودكتور الوليد ظل محل تقدير واكبار بفضل مساهماته الكتابية التي وضعته في مصاف كبار الكتاب، الذين تحتفي كل المواقع والصحف بمساهماتهم، وبالطبع لمساهماته وضع خاصة لشريحة من المهتمين بالشان السياسي والثقافي من مواقع نخبوية.
ولكن منذ اندلاع الثورة ووصولا لمحطة هذه الحرب اللعينة، اخذت آراءه ومواقفه وتحليلاته السياسية تتخذ طابع مثير للجدل! خاصة بعد ظهوره المتكرر علي شاشة قناة الجزيرة مباشر، في ظل اهتمامها الغريب، بل والمريب بثورات الربيع العربي! واحتمال وجوده ومقر عمله في قطر لعب دور في ذلك، ولكن المؤكد ان استضافة قامة ذات تاثير ومقبولية لعب الدور الاساس. وذلك للتغطية علي خطاب الحرب الذي تتبناه، عبر افساح المجال واسعا لمناصرو اطرافها. والذي يتغذى علي كم هائل من الاكاذيب والمغالطات والتحليلات الرغبوية، كدعاية لحرب اعلامية، موازية للمعارك الحربية علي الارض! وبذات افتقار الاخيرة لاخلاقيات الحروب ومشروعيتها، يعكس خطاب الحرب الاعلامية، الذي يشابه صراع الديوك، مستوي الهبوط والغوغائية والانحطاط الذي بلغناه.
وبعد الحرب ولقاءات الوليد المتكررة، اصبحت تضح صورته بشكل اكثر وضوح. لتظهر من خلال حديثه الذي تختلط فيه اللهجة القطرية بالعامية السودانية والمصطلحات الاجنبية. في خليط يتطابق مع شخصية الوليد المختلطة! التي اتخذت من مصطلحات الاستنارة وتخصص الحوكمة، واجهة للتغطية علي جوانب البداوة في تلك الشخصية الحريصة علي الظهور بمظهر التحضر والثقافة. والحال انه كمثقف يفترض ان يلعب دور الناقد والكاشف لخبايا كل الخطابات. وليس الانجرار لخطاب متهافت (مركز/هامش)! ومحاولة تمرير ذلك ببعض الاعتراضات الشكلانية (نقد بعض انتهاكات مليشيا الدعم السريع)، والتي لا تستقيم مع استقامة المثقف الحقيقي، الذي لا ينحاز للجهة او العرق او العقيدة…الخ بقدر انحيازه للحقيقة، والاصلح للمصلحة العامة.
ويبدو ان انتماء وليد مادبو لقبيلة الرزيقات، وقبلها للاسرة الحاكمة لهذه القبيلة، وتفضيله لسردية خطاب الهامش، يعكس جوهر شخصيته، اكثر من دور المثقف الذي يتلبسه ويحب ان يظهر به. وهو ما ادخله في تناقضات تحليلية ومغالطات تاريخية يبدو انه لا يشعر بها. ومن هذه الوجهة يبدو ان الوليد يعبر عن شريحة عريضة من المثقفين يعجزون عن الفصل بين موجبات الثقافة وعلي راسها التحرر من الارتباطات والانتماءات الضيقة والمصالح الخاصة، وبين عبودية الخضوع للايدلوجيات والسلطات وما تدره من امتيازات. وبالطبع اقرب وسيلة للهروب من هذا الوضع المرتبك، هو الاحساس بدور المضطهد بسبب جراءته الزائدة، والمستهدف بسبب شجاعته الفائقة!
وعموما خطاب المركز والهامش بوصفه خطاب مغبونية، قد يصلح للتحشيد، ولكنه لا يصلح للتحليل او بناء دولة حديثة. ولذا يستسهل الانتقام والتشفي وهدم ما هو قائم من مؤسسات، اكثر من قدرته علي معالجة القصور وتصحيح الاخطاء، ناهيك عن القدرة علي القيام بمهام البناء الاكثر صعوبة واحتياج لكم هائل من الخبرات الادارية والمهنية والمؤسسية، وإرث حضاري يتصل بالثقافة المدنية. وهنا يصادفنا ايضا زيف دعوة هدم دولة 56، التي يبدو انها تهدف لاستبدالها بدولة الفوضى اذا ما جردناها من الشعارات الطوباوية.
والدليل ان خطاب الهامش لا يصلح لمقاربة ازمتنا الوطنية، انها ازمة شبيهة بازمات المنطقة ككل، او كجزء من ظاهرة عامة (تشمل افريقيا واسيا وامريكا الجنوبية) لنظم عسكرية (غالبا مؤدلحة)، استولت علي السلطة بعد ذهاب الاستعمار، كاستجابة لقانون القوة بدل قوة القانون الذي لم يتجذر بعد. وعليه اذا كانت هنالك اخطاء او مظالم فهي اعراض لهذه الواقعة الاستبدادية، وما يستتبعها من الفساد وسوء الادارة. واذا صدف ان غالبية قادة تلك الانقلابات والحكومات من جهات او اعراق محددة، فهذا لا ينفي انها انظمة اقلية تخدم دائرة ضيقة متصله بها، بقدر ما تشمل نخب ما يسمي بالهامش، وعلي راسها الادارات الاهلية التي ينتمي لها الوليد، وتجرع نصيبه من امتيازاتها حتي الثمالة، ورغم ذلك يستنكف مجرد المس بها!
كما ان صدور خطاب الهامش من ابناء دارفور بصفة خاصة ليس مصادفة، ولكنه يعكس طبيعة الصراعات المحلية علي الموارد، والتي تتخذ خطوط عرقية، وتتغذي علي ثقافة قبلية تؤمن بالتفاوت والتراتبية المجتمعية. اي تستبطن السيادة والاستمتاع بكل شئ لمن يحوز القوة. وبتعبير آخر هاجس السلطة وامتيازاتها هو ما يشكل الوعي السياسي والتشدد المطلبي لمجمل الحركات المسلحة، وليس بناء الدولة المدنية او التحول الديمقراطي او العدالة الاجتماعية او بصفة عامة التحرر من ثقافة الاستبداد ومنتجاته وادواته. وهذا ما يفسر سهولة استغلال تلك التناقضات وممارسة سياسة فرق تسد من قبل السلطات العسكرية الحاكمة تجاه مكونات الاجتماعية لاقليم دارفور، وهو نفسه ما يغري القيادت الهشة لتلك الحركات المسلحة، بالانخراط في تلك الحكومات الانقلابية ضد اهلها وبقية المواطنين. والاخطر انه اذا ما وصلت للسلطة بهكذا خطاب مظلومية، فهي تتحول مباشرة لسلطة اقلية بل الاصح عائلية، تعيد انتاج الاستبداد والعزة بالسلطة والاضطهاد لكافة المحكومين، بصورة اكثر قسوة و فظاعة ممن كانت ترفضه وتشنع به وتقاتله!
والمهم، ما لا يجب ان يغب عن الوليد الذي يتبني خطاب شيطنة المركز، الذي يؤول عنده لجهات وعرقيات محددة! انه ذات الخطاب المؤسس لعمليات السلب والنهب والتخريب وكافة الانتهاكات التي طالت العاصمة و ود مدني بوصفهما مركز المركز، واهلها صفوة المراكزة ويسيطرون علي كافة الامتيازات! وهي انتهاكات كما هو معلوم يرفع دكتور مادبو عقيرته معلنا تجريمه لها!! وعليه، الوليد بإرادته او بغيرها، سيجد نفسه آخر المطاف في حضن توجهات ومخططات الدعم السريع! وهو ما جعل مناصري الدعم السريع يحتفون بحديثه ويتغاضون عن اعتراضاته الخجولة. والحال كذلك، سيصدق تشبيه الاستاذة رشا عوض (للمثقف النافع) علي دكتور الوليد مادبو، ولكن هذه المرة لخدمة الدعم السريع، الذي يفتقر للمشروع والمشروعية. أي بوصف مليشيا الدعم السريع محض قوة عسكرية نهبوية، فهي تمارس السطو علي كل شئ. ولذا ليس بمستغرب سطوها علي خطاب المركز والهامش، ومن ثمَّ توظيفه للاستثمار عاطفيا، لاستقطاب مناصريه، غض النظر عن تاريخ معاداتها لهذا الخطاب عندما كان اداة باطشة للكيزان!
وبعد ان استبشرنا بدكتور الوليد، كمثقف يرد للثقافة القها، بعد ان تسيد الساحة ابواق الحركات المسلحة وانصار المليشيا، المشبعون بشعارات المظلومية، التي ارتكبوا اضعافها في حق اهلهم وبيئاتهم المحلية، قبل ان يظهروا استعداد مريض لفش الغبينة ضد المركز واهله! وكذلك احتشاد الساحة بالشعارات السياسية والمشاريع الخيالية المدغدغة للعواطف، التي لا يعلم سوي الله كيفية تنزيلها علي ارض الواقع؟ وكذلك ابتلينا برحيل كبار الرموز الثقافية والابداعية، وانزواء كبار الكتاب بسبب الاحباط وتعنت اطراف الحرب وسيادة الهرج والمرج كجزء من حالة جنون الحرب السائدة. وهذا ناهيك عن انخراط بعض كبار الكتاب والمثقفين في مناصرة احد طرفي الحرب بشكل او آخر، توهماً بان هنالك امكانية لعودة السودان القديم الذي قبره اساطين الجهل والاجرام (حميدتي والبرهان)، او هنالك امكانية لاعادة تشكيله علي هواهم!
لكل ما سلف توقعنا من دكتور الوليد تقديم مقاربات جديدة تخرجنا من غبار المعارك والوحل ولو علي المستوي النظري، لانه مهما تعاظمت توقعاتنا نعلم حقيقة اصطدامها بجدار مطامع العسكر في السلطة وقدرتهم علي فرض الامر الواقع ولو علي انقاض الوطن وهلاك المواطنين! وفي ذات الوقت عدم الخضوع لاغراء الانحياز لاحد الطرفين ولو بصورة مرواغة، بمظنة ان هنالك عائد مرجو من ذلك سواء علي المستوي الخاص او العام. لانه ببساطة ما يتبقي من هذه الحرب الشاملة هو حطام البلاد وتشريد اهلها. وهذا غير ان هذه الحرب لا تفتقد للمشروعية فحسب، ولكنها للاسف تحولت لحرب قذرة بعد ان اتخذت من المواطنين الابرياء دروع بشرية ومن متلكاتهم غنائم حرب، ومن البنية التحتية كروت ضغط تستخدم في المزايدة من كلا الطرفين.
المهم توقعنا من الوليد وامثاله اجتراح طريق ثالث كما يقال، أي لا يقف عند تقديم مقترحات موضوعية وواقعية لإيقاف الحرب كمطلب عاجل، ولكن تساهم في فتح مسارات جديدة بعد ان اغلقت حرب الاطماع والجهالات كل المسارات العقلانية والسبل السلمية للحل، بل وسممت النفوس واطلقت مارد كره التكوينات المجتمعية لبعضها البعض من القمقم. أي اجتراح افكار ورؤي ومخططات طموحة، تضع الاسس لاوضاع جديدة، تستفيد من اخطاء الماضي وتستصحب روح السلام والتسامح والمحبة والتكافل والامل. او بصورة اخري تتمثل تجارب دول عاشت اوضاع مشابهة وتخلصت منها بحكمة حكماءها وارادة قادتها الاوفياء، وذلك لصالح اجيال المستقبل، بعد ان رهنت هذه الحرب الكارثية مصيرها للمجهول.
وعموما يبدو ان ما فات علي الوليد وامثاله، ان ما يجمع الطرفان المتقاتلان اكثر مما يفرقهما. أي ليس هنالك اختلاف بنيوي بينهما، او مصداقية لما يطرحانه من شعارات سياسية ودعاية حربية. لان كليهما حريصان علي السلطة كوسيلة لاحتكار الامتيازات واستباحة موارد البلاد، وازاحة كل مطالب التغيير والديمقراطية وشعارات الثورة، وتجريم السياسة والاساءة للسياسيين! اي كنقيض لبنيتهم الاستبدادية والانظمة الشمولية المتعفنة التي يعيشون وينشطون في كنفها. وكل هذا يقول شيئاً واحدا، وهو خضوعهما في نهاية المطاف للمصلحة المشتركة، ومن ثمَّ عقد اتفاق يحكمه توازن القوي علي الارض من اجل اقتسام ماتبقي من ركام الدولة. ويبدو ان ما يؤخر الاتفاق هو موقف الاسلامويين المتضعضع في هذه الحرب، وهو ما يسعون لتعديله بكل السبل قبل خضوعهم لقانون المصلحة المشتركة مع اشقاءهم في الدعم السريع!
واخيرا
مأساة هذه الحرب لا تتوقف عند تدمير البلاد واذلال العباد فحسب، ولكنها للاسف افقدتنا الثقة في كثير من مثقفينا وكتابنا. وعليه العوض ومنه العوض. ودمتم في رعايته.