الشكر والتقدير للأمانة السياسية لحركة المستقبل للإصلاح والتنمية، وللأستاذ هشام الشواني على وجه الخصوص، على دعوتي للمشاركة في ورشة عمل تحت عنوان: ” قضايا وإشكالات وحدة القوى الوطنية”، المُنعقدة في بورتسودان، 24-25 فبراير 2024.
كُنت بصدد المساهمة بورقة مُفصلة حول موضوع وحدة القوى الوطنية ولكن ضاق عليّ الزمن، مع وعدي بتقديمها لكم في أقربِ فرصةٍ. أكتفي في هذه المداخلة بمحاولة تحريرِ مفهوم “القوى الوطنية” في مقابل “القوى التقليدية والقوى الحديثة vs القوى المدنية والديمقراطية”، وفي السياق التاريخي-السياسي لتطور هذه القوى والصراع بينها حول سلطة دولة ما بعد الاستقلال في 1956 (المحوران الأول والثاني للورشة). ومن جِهةٍ أخرى، أُحاول أن أبتدِرُ حواراً حول الهدف النهائي لوحدَّة القوى الوطنية (وهي القوى التي تُركّ أمر تعريف ماهيتها وتحديد أطرافها لمداولات الورشة): هل هو تشكيل تكتلٍ سياسيٍ في مقابل تحالف القوى المدنية الديمقراطية، أم اجتراع رؤية تتجاوز هذه “الثنائية” وتلتف حولها غالبية القوى السياسية والمجتمعية نحو تأسيس الدولة وبناء الوطن بعد أن تضع الحربُ أوزارها؟
حقيقةً، نشأ مفهوم “الوطنية” خلال فترة مقاومة الاستعمار منذ ثلاثينيات القرن المُنصرم وارتبط ارتباطاً وثيقاً ب “الحركة الوطنية” التي قادت البلاد للاستقلال، بغض النظر عن الاختلاف التوجهات السياسية والإيديولوجية للأحزاب المُكونة لهذه الحركة وقواعدها الاجتماعية. فقد ساهمت الطائفية الدينية، والأرستقراطية الريفية القبلية، والمنظمات العرقية، والتجمعات التجارية والمهنية في المناطق الحضرية، والعمال، والمجموعات الطلابية والنسائية، في ظهور الأحزاب السياسية و”تطورها” اللاحق في السودان. نشأت هذه الأحزاب السياسية وتطورت في سياق شكلين من أشكال النضال ل “عملية التحرر الوطني” وبناء الدولة الوطنية. تميزت المرحلة الأولى بالنضال ضد الهيمنة الخارجية والحكم الاستعماري، بينما شهدت المرحلة الثانية بعد الاستقلال صراعاً داخلياً بين مختلف القوى السياسية والمجتمعية حول مهام بناء الدولة، وهو الصراع الذي لا يزال مستمراً، ولو تعددت أطرافه وأختلفت أشكاله.
الحركة، والقوى الوطنية
اتخذ النضال الوطني ضد الحكم الاستعماري البريطاني أشكالاً مختلفة، بدءاً بالمقاومة القبلية المسلحة في مطلع القرن العشرين )ثورة عبد القادر ود حبوبة( 1908 ، كما شهد هذا تطور الحركات السياسية المسلحة مع ظهور “جمعية اللواء الأبيض “عام 1924، التي دعت إلى استقلال السودان. وبالرغم من نجاح السلطة الاستعمارية في قمع هذه الحركة، إلاّ أنّ الحركة الوطنية عادت إلى الظهور في الثلاثينيات كنتيجةٍ للاقتصاد السياسي والسياسات الاستعمارية البريطانية، التي عملت على دمج القطاعين الحضري والريفي في هياكل سياسية واقتصادية، محلية ودولية، أوسع. وشهدت المراكز الحضرية نموا سكانيا سريعا وتوسعا في الصناعات الخفيفة والشبكات التجارية والخدمات الاجتماعية، وقبل كل شيء مثلت مراكزاً السلطة السياسية، بينما استمر الزعماء الدينيون والقبليون في تولي وظائف مهمة داخل التنظيم السياسي والإداري في الريف، و مع قطاعات من الأفندية المتعلمة من الطبقة المتوسطة. فهكذا، تشكلّ تحالفٌ بين مثقفي/أفندية الطبقة الوسطى والأرستقراطية الريفية والتجار “الجلابة” في المناطق الحضرية، سادته الخلافات حتى انقسم على نفسه بعد نيل البلاد لاستقلالها مباشرة في سيرور الصراع على سلطة الدولة. وبجانب الأحزاب التي عبرت هن هذه القوى سياسياً، بالتحديد حزب الأمة والأحزاب الاتحادية، صعدت إلى المشهد السياسي ، أولاً: قوى وطنية جديدة يُمكن أن نطلق عليها وصف “الجذرية أو الراديكالية” ضمت تجمعات سياسية ملتزمة ببرامج واسعة النطاق للتحول الاجتماعي والاقتصادي. تميزت هذه القوى بمخاطبة المصالح القطاعية لشرائح معينة من السكان (العمال والمزارعين والنقابات العمالية والطلاب والنساء) ولعبت دورًا سياسياً أكثر جوهرية مقارنةً بعضويتهم المحدودة نسبيًاً. ثانياً: صعود أحزاب إسلامية ذات توجهات سياسية مختلفة، على رأسها جماعة “الإخوان المسلمين”، التي إلى إضفاء الطابع المؤسسي على الشريعة الإسلامية. وهناك أيضاً حزب ديني صغير لكنه مؤثر، وهو “الإخوان الجمهوريون” الذي أسسه الشيخ محمود محمد طه في الخمسينيات كحركة إصلاحية إسلامية. ثالثا: إنّ التركيزَ الاستعماري للتنمية الاقتصادية والسياسية والإدارية في الشمال على حساب الجنوب، خلق فوارق اجتماعية واقتصادية وسياسية، مما فاقم الفجوة بين الجنوب والشمال، فاندلعت الحرب في الجنوب عشية استقلال البلاد في أغسطس 1955، ولم تتوقف حتى حصل الجنوب على استقلاله في 2011. ذلك، بجانبِ أنّ السياسة الاستعمارية المتمثلة في التنمية غير المتكافئة والهيمنة السياسية لنخبة الشمال النيلي تسببت في الكثير من الاستياء وسط النخبة الإقليمية وشعوب وأقوام السودان في الأجزاء الأخرى الأقل تطوراً في السودان. فبدأت منظماتٌ وأحزاب سياسيةٌ إقليمية في الظهور بعد الاستقلال مباشرةً والتي تشكلت استجابة للمظالم الإقليمية، بيد أنّها تمددت في شرق وجنوب شرق البلاد وتحولت من حركات سياسية سلمية لجماعات مسلحة ظلت تقاتل ضد الحكومة المركزية، حتى قيام ثورة ديسمبر 2018.
القوى “التقليدية” و”القوى الحديثة”
كما نوهت في مقدمة هذا التعليق، ظلت فترة ما بعد الاستقلال تشهد صراعاً داخلياً بين مختلف القوى السياسية “الوطنية”، التي توحدت في النضال ضد المُستعمِر، حول السلطة الوطنية ومهام بناء الدولة، وهو الصراع الذي لا يزال مستمراً، ولو تعددت أطرافه وأختلفت أشكاله. على خلفية التوجهات الإيديولجية وتباين القواعد الاجتماعية، التى أفرزها الاقتصاد السياسي للاستعمار، لهذه القوى الوطنية، تم ابتداع مفهومي القوى “التقليدية” والقوى “الحديثة” في وصفِ هذا الصراعٌ، وهما مفهومان سادا الأدب السياسي حتى نهاية الثمانينات من القرن الماضي، دون إغفالٍ للحرب في الجنوب أو الحركات السياسية الإقليمية. أثار المصطلحان تحفظاً شديداً من قبل بعض الدارسين والسياسيين بأنّ تقسيم المجتمع والسياسة إلي “تقليدي” و”حديث” أمر يجافى الواقع السوداني. ومع أخذ هذه التحفظات في الاعتبار ، فإنه ليس من التعسُّف في شيء أن نَصِفَ بعض التشكيلات الاجتماعيَّة بــ“التقليديَّة” وأخرى بــ”الحديثة” في سياق التطوُّر التاريخي والموضوعي للمجتمع والاقتصاد السودانيين. فقد صاحب هذا التطوُّر نشوء كياناتٍ سياسيَّة (حزب الأمة والأحزاب الاتحادية)، ذات توجُّهٍ تقليدي مُرتبطٍ بالطائفيتين الدينيتين الرئيستين، الأنصار والختمية، وبرامج تخاطب التكوينات التقليديَّة، من جهة، وبروز قوى سياسيَّة جديدة (الحزب الشيوعي) ونقابيَّة صاغت رُؤاها وبرامجها لمخاطبة التشكيلات الحديثة. ومع ذلك، لا ينفي هذا التقسيم، الذي تقتضيه ضرورة التحليل، التقاطعات والتمفصُل بين هذه التكوينات. فمثلاً، مع أن حركة الأخوان المسلمون، بمسمياتها السياسية المختلفة والمتعددة، تقوم علي أسُسٍ دينيَّة، إلاّ أن لا يمكن إدراجها ضمن القوى التقليدية، حيث يستند الإسلاميون أساساً على الشرائح الاجتماعية الوُسطي التي نالت قسطاً مُقدراً من التعليم. لذلك، أستخدم المصطلحين كمفهومين سياسيين يُميِّزان بين قُوى اجتماعيَّة تتباين في برامجها السياسيَّة ومواقفها حول قضايا السُّودان الأساسيَّة، خصوصاً العلاقة بين الدين والدولة والهُويَّة وحقوق المواطنة.
ما أن انطلقت العملية السياسية لتأسيس الدولة الوطنية المستقلة حتى نشب الصراع على سلطة الدولة الوليدة بين أحزاب القوى التقليدية و”الإسلامية”، من ناحيةٍ، وبينها وبين القوى الحديثة، من ناحية أخرى، والذي أفضى إلى إنقلاب واستلام الجيش للسلطة في 1958 و1969 و1989، ولو تحت غطاء سياسي لأطراف كل هذه القوى. وفي هذا السياق، فمع ارتباط مصطلح “الوطنية” بعموم حركة مُناهضة الحُكم الاستعماري، إلاّ أنّ المفهومَ برز مُجدداً على سطح السياسية السودانية في منتصف السبعينات. على خلفية حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان، بجانب تفاقم خلافات القوى التقليدية والإسلامية على موضوع الدستور الإسلامي، أزاح انقلاب 25 مايو بالقوة العسكرية تحالف القوى التقليدية من سدة الحكم وحسم الصراع السياسي لصالح القوى الحديثة، بل واستحدث مصطلح جمهورية السودان “الديمقراطية”. وهو الاتقلاب الذي باركه الحزب الشيوعي وشاركت فيه الأحزاب القومية العروبية والحركة النقابية السودانية بكل فئاتها (العمال والمزارعين والمهنيين) .
مُصطلحات جديدة
دون الخوضِ في تفاصيل، وصلت معارضة القوى التقليدية والأخوان المسلمون لنظام نميري منذ يومه الأول إلى مواجهات واشتباكات عسكرية في معقل أنصار المهدي بالجزيرة أبا وفي أمدرمان ومقتل إمام الأنصار وعدد من القيادات الإخوانية، في مارس 1970. إزاء هذا التطور تشكل بين تحالف حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي والإخوان المسلمون إلى تكوين منصة معارضة بإسم “الجبهة الوطنية” لجأت إلي استخدام السلاح انطلاقاً من إثيوبيا وليبيا ودخول قواتها إلى الخرطوم في منتصف 1976 في محاولة لاستعادة السلطة لم يحالفها التوفيق. فهكذا، ميّزت جبهة المعارضة نفسها ب “الوطنية”، وربما يرجع ذلك إلى 1) نقصٍ في المصطلحات الجديدة للقوى التقليدية والإسلاميين في مقابل ما صكته القوى الحديثة من أوصافٍ لنفسها على شكلة “التقدمية، اليسار، الفكر القومي، الاشتركية، الطليعة”، و2) وصم القوى الحديثة بالارتباطات الخارجية والقومية والأممية مما يطعن في وطنيتهم لدى القوى التقليدية والإسلاميين التي تعِد نفسها وطنيةً خالصةً. للمفارقة، وكأن صفة “الوطني والوطنية” محتكرة لدى القوى الإسلامية أو التقليدية انتزع الإسلاميون صفة “الوطني” من حزب المؤتمر الوطني، الذي أسسته مجموعات من المهنيين المعارضين لنظام مايو من تيار ما يُطلق عليهم “وسط اليسار”، فسموا حزبهم المؤتمر الوطني في مطلع التسعينات، ومع اجازة قانون التوالي السياسي تقدمت تلك المجموعة تطالب بأحقيتها في اسم )المؤتمر الوطني( و لجأت للمحكمة الدستورية لكنها لم تكسب القضية، و استمر الحزب الحاكم يحمل اسم المؤتمر الوطني حتى بعد مفاصلة الاسلاميين الشهيرة العام 1999، بينما استقل الشق الآخر بإسم المؤتمر الشعبي و انضوى تحت لافتة قوى المعارضة .
بعد دخول الحركة الشعبية لتحرير السودان والجيش الشعبي في حلبة الصراع السياسي، في منتصف الثمانينات، بزغت مصطلحات جديدة ك”القومية (من أقوام)” و”قوى الريف والهامش، وقوى “السودان الجديد”، ولكنها لم تجب ثنائية التقلدية والحديثة. بل تحالفت الحركة مع القوتين تحت مظلة التجمع الوطني الديمقراطي ضد حكم الجبهة الإسلامية القومية حتى توقيع اتفاقية السلام الشامل في مطلع عام 2005. في هذا السياق، أشرككم معي في تعليقٍ عميقٍ وطريفٍ للزعيم الراحل جون قرنق في اجتماع نظمناه مع عددٍ من المثقفين والمهنيين في مقر إقامته بالقاهرة، في 3 ديسمبر 1997. ففي معرضِ حديثه عن كل هذه المفاهيم قال: “إذا ذهبتم إلى الريف، إلى يامبيو أو ييي، مثلاً، وتحدثتم إلى مُزارعٍ هناك، والذي قد تم “تسيسه” مُسبقاً، عن القوى الحديثة في الشمال، فهو لن يفهم عما تتحدثون. وإذا تحدثتم إليه عن الديمقراطية سيقول: ما نوع هذا الحيوان؟”.
مثّلت ثورة ديسمبر التي أسقطت حكم ثلاثة عقود للإسلاميين نقطةَ تحولٍ في تفكيك مصطلحات القوى التقليدية والإسلامية، من جٍهةٍ، والقوى الحديثة، من جِهةٍ أخرى، حيث أضحى الصراع بين ما أطلقت على نفسها القوي “الوطنية” وقوى “الثورة”، أو”لقوى “الديمقراطية والمدنية”. إضافةً، إلى نشأةِ حركات المقاومة المسلحة في دارفور، والحركة الشعبية شمال في جنوب كردفان والنيل الأزرق. فتشكلّ تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير من بعص مكونات القوى التقليدية (حزب الأمة)، والقوى الحديثة (الحزب الشيوعي، تجمع المهنيين، المجتمع المدني)، وحركات الكفاح المسلح التي كانت جزءاً من تحالف نداء السودان. انقسمت قوى إعلان الحرية التغيير على نفسها فانسحب الحزب الشيوعي وفصيل من تجمع المهنيين ليكونا مع أجسام لم توقع أصلاً على الإعلان (الحركة الشعبية شمال وحركة تحرير السودان). ذلك، بينما انتظمت بعض الحركات المسلحة مع بعض أقسام القوى التفليدية (الاتحاد الديمقراطي)، وبعض الكيانات الإقليمية في شرق السودان، في “الكتلة الديمقراطية” وقوى “الحراك الوطني”، والتي انضمت لاحقاً للجبهة “الوطنية السودانية”، وهو تحالفٌ لم يصمُد طويلاً. أما ما تبقى من قوى الحرية والتغيبر، المجلس المركزي (حزب الأمة القومي، المؤتمر السوداني، التجمع الاتحادي، التحالف السوداني)، وفصيل من تجمع المهنيين وبعض الهيئات النقابية وفصائل من الحركات المسلحة والمبادرات المدنية، فقد انتظمت في تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية “تقدم”.
وفي أعقاب الثورة أيضاً، وبعد توغل مليشيا الدعم السريع في المعادلة السياسية وإندلاع حرب أبربل، وفي ظلِ التدخلات الخارجية السافرة، أصبح الصراع السياسي أكثر استقطاباً، فاختلط حابل القوى التقليدية والإسلامية والوطنية بنابل القوى الحديثة والديمقراطية والمدنية. فالآن، انقسمت الحركة السياسية والمجتمعية إلى معسكرين متناقضين متحاربين يسعى كلٌ منهما لفناءِ الآخر، بمعيار الموقف من مليشيا الدعم السربع، من جانبٍ، والموقف من الجيش وقيادته ومن الإسلاميين، من جانبٍ آخر. فالقوى المنضوية تحت لواء “تقدم” ترى أن الحرب قد أشعلها الإسلاميون وسدنة نظام الإنقاذ بغرضٍ القضاء على ثورة ديسمبر وقوى الثورة الديمقراطية والمدنية، فوقعوا على إعلانٍ للمباديء مع مليشيا الدعم السربع بعد أن أعلن قائدها وقوفه مع التحول الديمقراطي واعتذاره عن انقلاب 25 أكتوبر. أما الإسلاميون فهدفهم هو إقصاء “تقدم” تماماً من أي عملية سياسية، بل ومنع قياداتهم من دخول البلاد، بالتزامن مع تدمير قوات الدعم السربع ورفض التفاوض نهائياً مع المليشيا.
خاتمة
حاولت في هذه المداخلة أن أُجيب على سؤال رئيس تطرحه الورشة عن ماهية وتعريف مفهوم القوى “الوطنية”، والذي لم يرِد ضمن المحاور المطروحة للنقاش بالرغمِ من ذِكرِ مصطلح “القوى الوطنية” أكثر من أربعة عشر مرة في كٌتيب الورشة، إلاّ أنّ تعريف هذه القوى وتحديد أطرافها قد تُرك للمداولات المُرتقبة.
فبينما توحدت القوى السياسية في إطار الحركة الوطنية لمناهضة الحكم الاستعماري، ظلت الانشقاقات والانقسامات السياسية مُلازمة لتطور الصراع بين هذه القوى على سلطة الدولة الوطنية بعد استقلال البلاد وإلى يومنا هذا. وبِحُكم الخلفيات والقواعد الاجتماعية والتوجهات الإيديولوجية لهذه القوى أخذ هذا الصراع طابعاً استقطابياً ثنائياً تحت توصيفات “ذاتية” (نحنُ)، كلٌ يُعرفُ نفسه في مقابل الآخر: قوى تقليدية ضد قوى حديثة، قوى الهامش ضد قوى المركز، وقوى وطنية ضد قوى مدنية ديمقراطية. فمصطلح “الوطنية” أصبغته القوى الإسلامية، في تحالفها مع ما توصف بالقوى التقليدية، منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، إلى الوقت الراهن الذي تواجه فيه الحركة الإسلامية تحدياً رئيساً لمستقبلها السياسي وتسعى للتحالف مع قوى تقف معها ضد القوى الديمقراطية المدنية.
وعلى هذه الخلفية، فهل حقيقةً هناك قوى وطنية وقوي غير وطنية؟ وما هي معايير التمييز؟ فتعريفِ المفهوم أو المصطلح من الأهمية بمكانٍ حتى يكون المعنى المقصود واضحاً للآخرين، بِحيثُ لا يعني أشياءاً مُختلفةً لأشخاصٍ مُختلفين، مما قد يقود إلى سؤ الفهم. ففي هذا السياق، هل الدعوة إلى وحدّة القوى الوطنية تستهدِفُ التيارات والمجموعات الإسلامية المتبارية بهدفِ جمعها في كُتلةٍ سياسيةٍ تنضمُ إليها مكوناتٌ بعينها؟ لا شكّ، أنّ تشكيلَ التحالفات السياسية خطوةٌ إيجابيةٌ تُحقق قدراً من التوافق تحتاجه البلاد في ظل حربٍ مُشتعلةٍ وتشظيٍ سياسي وانشطار مُجتمعي غير مسبوقين. ولكن، ما الهدف من هذا المسعى؟ هل هو التكتل في وجه ومواجهة القوى الديمقراطية والمدنية المُضادة بغرض إقصائها من العملية السياسية لما بعد الحرب تشفياً من دعوة هذه القوى لاستبعاد لإسلاميين وحلفائهم؟ إنّ الإقصاء والإقصاء المضاد بين القوى الوطنية والقوى المدنية والديمقراطية لعبة صفرية لن يكسب فيها الوطن إلاّ الخسران المُبين، فإذا كُنا لا نقبل إقصاء الإسلاميين، إلاّ من أجرم وأفسد، فإنّه لا يجوز صبغ صفة الخيانة والعمالة للخارج على القوى المدنية الديمقراطية بدون أدلة وبراهين والمطالبة بالمحاسبة وفقاً لحكم القانون.
ففي رأيي، أنّ التكتلات السياسية تكون أكثر جدوى في إطار المنافسة الحزبية للتداول السلمي للسلطة بعد إرساء قواعد نظام ديمقراطي يحدده الدستور الدائم للبلاد، ولكن الآن في ظلِ حربٍ مُستعرة ضاعفت حِدة الإنقسامات والإستقطابات السياسية، ينبغي أن يتجاوز الصراع بين القوى السياسية مرحلة التناقض والاستقطاب، وأن تسمو هذه القوى فوق حسابات السياسة وصراعات السلطة. فالمطلوب هو السعي الجاد نحو خلقِ شرعية “توافقية” من خلال عملية سياسية تأسيسية يُشارك فيها الجميع، لنقل البلاد إلى تحولٍ ديمقراطيٍ حقيقي، وأن يكون الهدف الرئيس من وحدّة القوى الوطنية هو تأسيس الدولة والمحافظة على بقائها وليس التطلُعِ إلى الحكم عبر خلق التكتلات السياسية المُضادة.
“الوطنية” هي القاسم المُشترك لكل القوى السياسية والمجتمعية السودانية، وعلى هذه القوى أن تستدعي الوحدّةَ التي قامت عليها الحركة الوطنية لمناهضة الحكم الاستعماري، وتتداعى هذه المرة لإنهاء الحرب بهدفِ تأسيس الدولة الوطنية التى ظلت تشوبها شروخ عميقة تهدد وجودها منذ نيل البلاد لاستقلالها في 1956.