وصل السودان إلى حالة المجاعة الكارثية من المستوى الخامس كما تصنفها الأمم المتحدة، وهذا ما يعني ضرورة الاستنفار الدولي لإنقاذ العباد في هذا البلد من كارثة إنسانية ستكون وصمة في جبين البشرية في القرن الواحد والعشرين.
لكن السؤال: كيف يمكن أن يُستنفر المجتمع الدولي لمنع هذه الكارثة، والطرفان المتحاربان مصران على مواصلة الحرب حتى آخر إنسان في البلد، الذي هجره كثيرون، وساحوا في دول الجوار وغيرها لاجئين لا حول لهم ولا قوة، يتلقون صدمات القوانين المجحفة التي تعاملهم كمتهمين، حتى يثبتوا العكس.
والأنكى أن كثيرًا ممن يطلق عليهم المستنيرين يحاربون في جبهة أخرى، وهي هدم كل الروابط التي تجمع أبناء الشعب السوداني، والعمل بدأب يُحسدون عليه على تأليب مكونات المجتمع، بعضها على بعض، واستدعاء أسوأ ما في التاريخ لتأكيد نظريتهم بأن دولة 56 الشمالية استأثرت بثروات البلاد، ومارست كل صنوف الظلم الاجتماعي، والاستعلاء على الآخرين، حتى ألبسوها تهم الإبادة الجماعية، والممارسات غير الإنسانية للإنقاذ، فأصبح الشمالي هو الذي ينهب ذهب دارفور، وجناين كسلا، وأصبحت صفتهم جميعًا “الجلابة”، بكل ما يحمله المصطلح من دلالات سيئة في أذهان كثير من أهل الهامش.
ويفوت على هؤلاء أن الشمال – تحديدًا- محروم من التنمية منذ الاستقلال، وقد وقف على الوضع المأساوي كثير من المواطنين من أقاليم السودان الأخرى الذين ساقتهم أقدارهم إلى هناك، فوجدوا أنَّ صورتهم عن الشمال كانت خيالية، وأنَّه أكثر مناطق البلاد بؤسًا، ولعل هذا يعيدنا إلى اتهام أبناء الشمال لنخبتهم بأنَّهم أهملوا المنطقة بدعوى القومية، في حين يُنظر إليهم بأنَّهم ينحازون إلى الشمال، ويهملون المناطق الأخرى.
وهؤلاء المحرضون الآن في ظل حرب طاحنة يغازلون الشرق، ويحرضون أهله على الشماليين، ويطالبونهم بالاصطفاف من أجل هدم دولة الجلابة. ما هذا السقوط الأخلاقي الذي يدعو من يوصف بأنه مفكر بتبنِّي رؤية هدامة لبنية الدولة، التي هي أحوج اليوم إلى لملمة الأطراف، وجمع الصف الوطني لمواجهة خطر الانشطار والتشظي، الذي سيصيب الجميع في مقتل، حيث لا بلد يمكن الصراع عليه.
إنَّ الحديث عن دولة الجلابة، ودولة 56، وغيرها من طنطنات المثقفاتية ليس هذا وقته، لأن أي حوار جاد يعيد الأمور إلى نصابها لا يمكن أن يكون إلا في ظل الأمن والاستقرار، اللذين لن يتحققا دون إسكات صوت البندقية، وبعد ذلك لكل حادث حديث.
والكارثة الإنسانية التي ألمحنا إليها بدايةً تستدعي تلمس كل السبل الممكنة لوقف الحرب، رأفة بالمواطنين الذين هم وقودها، وقد تشردوا من منازلهم، وسُلبت أموالهم، وانتُهكت أعراضهم، وتلاحقهم الدول بقوانينها المجحفة، فهلا تعقلنا والشهر الكريم على الأبواب لرفع المهانة عن إنسان السودان.