طلب مني الأستاذ جعفر خضر قبل نحو شهر أن أزكيه لمؤسسة ما. وأعرب هنا الخطاب عن إنجليزيته وأعدله هنا بمثابة احتجاج على اعتقاله الأخير خلال ثورة 2018 ولتعريف شبابنا بهذا الرجل النادر.
عرفت جعفر خضر منذ 2009 خلال حملتي الانتخابية لرئاسة الجمهورية في 2010. ولم نغب عن بعضنا منذها. وكان تعرفي به استجابة السماء لدعائي. فقد نزلت الانتخابات كأكاديمي مستقل آملاً التشديد على أهمية تلك الانتخابات التي سيعقبها استفتاء على وحدة السودان يقرر جنوب البلاد بمقتضاها إن كان سيبقى في الوطن أم ينفصل. وقد شق عليّ أنه لا الحكومة ولا معارضتها قد اعتبرت الأمر الجلل الذي انطوت عليه تلك الانتخابات. وخيمت على البلاد غيوم الإعياء وفقدان الحيلة. وكانت الدعوة الوحيدة، أكرر الوحيدة، التي تلقيتها للحديث إلى جمهور تلك التي جاءت من جعفر عن منظمة “الشروق الثقافية” في مدينة القضارف. ولم ينته الأمر عندها. لقد حللت ضيفاً عليه وعلى أسرته في غرفته بسقفها الهرمي من قش الخلاء. ولقيت أمه وأخوته وأخواته وأكرموا وفادتي. وتطوع أخوه رامي خضر لجمع توقيعات من الولاية لتزكية ترشيحي كما هو مطلوب بقانون الانتخابات.
لما أتيح لي التعرف على جعفر عن كثب عرف أن حماسته لحملتي الانتخابية هي أثر لناشطيته هو نفسه المحلية إلى يومنا. بل كان مرشحاً هو نفسه لمجلس ولاية القضارف عن الدائرة الشرقية الثانية بمدينة القضارف. وخلافاً لكوادر من المعارضة تعاطفت مع حملتي كان جعفر هو الوحيد الذي بوسعه تقديمي للجمهور من فوق منبر بناه لسنوات ضاق فيها الأمرين. وعرفت أنه بدأ هذه الرحلة الخطرة للوطن كطالب معاق بجامعة الخرطوم بقصيدة عن شهيد صرعه رصاص أمن نظام الإنقاذ في 1991 كان اقتحم لإلقائها محفلاً مقاماً. وكان عضوا مبادراً في تنظيم الطلاب المعاقين بالجامعة بإشراف المرحوم الدكتور محمد هاشم عوض. وكان من وراء إعداد مسرحية قام فيها بالتمثيل أعضاء جمعيته عرضت على مسارح كثيرة بالخرطوم. ولما تنامى حسه بمنزلة السياسة حول تخصصه إلى العلوم السياسية والاقتصادية عن علوم الإدارة.
وما عاد إلى مدينته بعد تخرجه في الجامعة حتى استغرقه العمل السياسي والاجتماعي في السياسة المحلية. فبادر مع آخرين بتكوين “شروق” الثقافية الغراء التي أوتني حين تشردت. كما كان في طليعة منظمة “القضارف ضد الفساد” التي تربصت بإساءة توظيف المال العام. فلدى زيارتي للقضارف شنت الجمعية تظاهرات متصلة ضد الانفاق البذخي في بناء مركز الحكومة بالولاية. ولم ترهبه حقيقة أن التظاهر محرم بالقانون. والقى الأمن القبض عليه. وتكرر احتجازه، وتفتيش داره، والحجز على كمبيوتره وأوراقه.
أجرؤ على القول إن جعفر في قلة من السودانيين اعتقدت أن السياسة ممارسة محلية كما تجري العبارة. فتضحيات السودانيين فوق الحصر، ولكن جعفر استثناء فيهم لتجذر سياسته في بيئة محلية ومداومته عليها. قرأت بحثاً له عن التعليم عنوانه “التعليم السوداني: لا وحدة بلغ ولا ديناً أبقى”. وأشهد الله أنني ما قرأت مثله ممن فاقه خبرة وتأهيلاً. فبينما تجدهم غضبى حولوا نقدهم للتعليم في ظل الإنقاذ إلى سياسة تجد جعفر رصيناً أبقى عليه تعليماً ونفذ إلى نصوص المقرر تجريحاً وتعديلاً بحرفية ببداغوغية غراء.
تنفد كلماتي قبل أن أوفي تزكية جعفر لكم. فأنا معجب به وأحبه كسوداني استثنائي. لقد خاض بحر السياسة وغبار شوارعها وحراسات أمن النظام المدجج من فوق عجلة معاق. وفاق تصوري جس نبض وحمية وعرفان جمهور التظاهرات التي قادها فوق شوارع القضارف لأجل الوطن من فوق تلك العجلة.
زار المرحوم عبد الله حامد الأمين مصر والتقي بالرئيس جمال عبد الناصر الذي انحنى ليسلم عليه وهو على كرسي الإعاقة. قال المرحوم: “حين انحني العملاق يسلم عليّ وقفت”. وحين انحنى الوطن يسلم على جعفر وقف إلى يومنا.
IbrahimA@missouri.edu