روى فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله هذه القصة العجيبة:
قال : كنتُ عائداً إلى بيتي قبل المغرب بساعة في يوم من أيّام رمضان ..
فاستوقفني رجلٌ فقيرٌ من الذين يتردّدون على درسي في المسجد تردُّدَ الزائر، فسلّم عليّ بلهفةٍ أدمعت عينيَّ وقال لي:
أستحلفك بوجه الله أن تفطر عندي اليوم ؟
يقول الشيخ : عقدتْ لساني لهفته
وطوّقت عنُقي رغبتُه
وأشرق في قلبي وجهٌ استحلفني به
فقلتُ له : يا أخي، الأهل بانتظاري وظروفي لا تسمح، ولكن !
يقول الشيخ: وجدتُ نفسي أتبعه إلى بيته الذي لا أعرف مكانه، ولا أعرف ظرفه في هذا الوقت الحرج من موعد الإفطار .
يقول : وصلنا إلى بيته، فإذا هو غرفةٌ ومطبخٌ وفناءٌ صغير مكشوفٌ على سطحٍ اشتراه من أصحابه، وله مدخلٌ ودرجٌ خاص من الخشب لا يحتمل صعود شخصين، فخشباته تستغيثُ من وهَنٍ خلَّفَهُ بها الفقر والقِدَم .
كانت السعادة تملأ قلب هذا الرجل، وعبارات الشكر والإمتنان تتدفّق من شفتيه وهو يقول لي :
أنظر يا سيدي، هذا البيت ملكي (والملك لله)
لا أحد في الدنيا له عندي قرش
أنظر يا سيدي، الشمس تشرق على غرفتي الصبح، وتغرُب من الجهة الثانية
وهنا أقرأ القرآن عند الفجر وقبل المغيب
وزوجتي الله يرضى عليها تجلس على ذلك الشبّاك وتدعو الله لي
والله يا سيدي كأني أسكن في الجنّة .
يتابع الشيخ ويقول :
كل هذا يجري على مسامعي وأنا أصعد على الدرج بحذر خشية السقوط
لحظات ووصلنا إلى الغرفة فجلست، وذهب الرجل إلى زوجته، وسمعت صوتاً خافتاً من صاحب الدار يقول لزوجته : جهزي الفطور الشيخ سيفطر عندي اليوم
وصوت زوجته تقول له : والله، ما عندنا أكل غير فول، ولم يبق على أذان المغرب إلاّ نصف ساعة، ولا شيئ عندنا نطبخه، ولو كان عندنا فالوقت لا يكفي !
يقول الشيخ : سمعت هذا الحوار كله، فلما جاء صاحب الدار قلت له : يا أخي، لي عندك شرط؟
أنا أفطر مع اذان المغرب على ماء ومعي التمر، ولا آكل إلاّ بعد نصف ساعة من الأذان، بعد ما أهضم التمر والماء، وأصلّي وأُنهي وِرْدي اليومي، ولا آكل إلاّ فول مدمّس وبطاطس.
فقال الرجل : أمرك سيدي
فقال الشيخ : إذاً دعني الآن لأختلي مع ربّي
وتمّ ما أراده الشيخ، وأفطر عنده ثم غادر.
يقول الشيخ: لقد اخترتُ البطاطس لأنها زادُ الفقراء، وأحسبها عندهم
وقد خرجتُ وكُلّي سعادةٌ وبهجة، وقد أحببتُ الدنيا من لسانِ هذا الرجل الذي ما نزلت من فمه عباراتُ الثناء والحمد على نِعم الله وعلى هذا البيت الذي ملّكَهُ الله إيّاه، وهذه الحياة الجميلة التي يتغنّى بها .
يقول الشيخ :
ثم دُعيت بعد أيام مع مجموعةٍ من الوجهاء على الإفطار عند أحد التجّار الأثرياء، وكان من الذين أنعم الله عليهم بالمال والجاه والأولاد والحسب والنسب
وكانت الدعوة في مزرعةٍ فخمة فيها مما لذّ وطاب، يتوسّطها منزل أقرب ما يكون للقصر، يطلُّ على مسبحٍ ومرْبَطِ خيلٍ فيهِ نوادر الخيل الأصيلة
يقول الشيخ: أفطرنا عند الرجل وأثناء المغادرة، انفرد صاحب الدعوةِ بي، وشكى لي من ضيق الحياة وهموم التجارة، ومتاعب الأولاد وسوء طباع زوجته، وطمع من حوله به، وكثرة المصاريف لإرضاء الجميع، وَسَأَمِهِ من هذه الحياة، ورغبته بالموت ليتخلّص من هذه الهموم .
يقول الشيخ : والله، من باب منزل صاحب الدعوة، إلى باب سيارتي، سَوَّدَ هذا الرجل الدنيا في عيوني، وأطبقَ عليَّ صدري وأنفاسي .
فنظرتُ إلى السماء بعد أن ركبتُ بسيّارتي وأنا أقول في قلبي :
( الحمدُ لله على نعمةِ الرضا )
فليست السعادة بكثيرٍ ندفع ثمنه
ولكن السعادة حُسنُ صِلَةٍ بالله
ورضىً بما قسمَ الله عزّ وجل .
رحمَ الله شيخنا الجليل وأسكنه فسيح جناته.
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة.
اجعلنا من الراضين القانعين بما أنعمت به علينا.. وبارك اللهم لنا في أعمارنا وأولادنا وأرزاقنا واصلح لنا ديننا ودنيانا التي فيها معاشنا. وآخرتها التي إليها معادنا.
اللهم آمين
وصل اللهم على سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
اللهم آمين …