ما الذي يعجز السودانيون عن تحقيقه بالحوار حتى يشعلوا حربا كهذه؟!! اضحكت عليهم الامم، وشمتت فيهم الاعداء، واظهرتهم بمظهر الحمقى، الذين يتقاتلون بعبثية، وهم خارجين لتوهم من ثورة سلمية عظيمة اطاحت بأحد اطول فترات الشمولية والاستبداد في تاريخ افريقيا .
ما أظهره السودانيون في الثورة من عظمة وكبرياء في سبيل تحقيق الحرية والمدنية، حطموه بهذه الحرب، وحطموا معه ما تبقى لهم من نخوة ومرؤة وفضائل.
ما انتجه السودانيون من وعي عميق بالحقوق وبالتعايش والعدالة والوحدة عبر ثورة شعبية باهرة، اضاعوه بحرب عبثية نشرت الظلم والتفرقة والتمييز والكراهية، حتى لم يعد في السودان شخص امن على نفسه.
ما تمسك به السودانيون طيلة خمسة أشهر من السلمية حتى سقوط البشير، ثم اعقبتها اربعة شهور من السلمية حتى سقوط حكم المجلس العسكري باتفاق الوثيقة الدستورية، ثم اعقبتها سنة ونصف من السلمية منذ انقلاب اكتوبر ٢٠٢١ وحتى اندلاع الحرب، كل هذه المثابرة على السلمية والوعي العميق بضرورتها، والايمان الكامل بالسلام ولا شيء غيره، تبدد في ١٥ ابريل، وانتهى مع الايام حين مال الناس عن خط السلام وانتموا الى الحرب.
كيف يمكن لشعب امن بالسلام والسلمية طيلة هذه السنين، وناضل مدنيا ضد الجبابرة والطغاة، ان يسقط في امتحان هذه الحرب العبثية؟!!
انه لشيء عجاب، ان يتحول السلام الى حرب، والسلمية الى قتل، والحرية الى كبت، والعدالة الى ظلم، والاستقرار الي نزوح ولجوء، والوطن الى جحيم.
لا يمكنك عقليا ان تتصور حجم التحول المخزيء في نظرة الناس للوطن، للاخر، للسلاح، للعنف، للكراهية، أصبح الناس الذين ثارو في ثورة ديسمبر واعطوا العالم نموذجا باهرا في الوعي بالذات والوطن والاخر والتعايش، نماذج محترفة في القتل وبث الكراهية وتوزيع السلاح عشوائيا وقطع الرؤوس والتمثيل بالجثث!
اصبحت الأفكار التي كانت تؤسس للتحولات القيمية والمفاهيمية للمجتمع الحر، والتأطير الواعي لمنتوجات الثورة، تنادي بالعكس تماما، تنادي بالقتل الجهوي، تنصر الطغيان، تنشر الكراهية، تغرق في مستنقع الحرب غير الاخلاقية، ففقدت بذلك الثورة وجودها في مخيلة الوعي الجمعي، وانتهت تماما في أعماق الاجيال الجديدة، واستبدلتها آلة الحرب ودعايتها، بمخيلة (البل) و (الجغم) و(الفتك والمتك)، وتحول الشعب السوداني من معلم الشعوب في الثورات الى إستاذ الشعوب في الانحطاط والقتل والكراهية .
ليس أزمة هذه الحرب، في انها قتلت الناس، فالناس يموتون بالحرب او بغيرها، ولكن ازمتها في انها قتلت الوعي، اطفأت الجذوة التي انتجتها ثورة ديسمبر، والتي أوشكت ان تنير السودان اجمع وما حوله، ولم يعد ثمة مستقبل باهر قريب يمكن للمرء العاقل ان يتوقعه للسودان والسودانيين للأسف.
يوسف السندي