في اليوم الذي يسبق أول يوم في رمضان، اليوم الذي تعارفنا على تسميته بالوقفة، تقدمت بطلب إلى رئيستي في العمل، السيدة (موديستين ويسلي)، وهي إمرأة افروميريكية ستينية، لا تزال تحتفظ بقدر من حيوية شبابها، وابتسامة واريحية لا تخطئهما العين، تقدمت إليها بطلب أسألها فيه، إن كان بالإمكان، الموافقة على انصرافي من العمل باكراً، إبتداءً من يوم الغد، ولمدة شهرقادم، لم أكن أتوقع منها غير أن تهز رأسها بالإيجاب، و دون أن ترفع وجهها المكب على دجاجة مشوية وحيدة، حتى، أولاً، لأنها سوداء، والجنس للجنس رحمة، وثانياً لأن للسود إحتراماً خاصاً للمسلمين، وثالثاً لأنها كانت تحدثني دائما، عن مدى إعجابها بأدائي، وإعجابها بالسادة اليجا محمد (والذي يصر كثير من أتباع أمة الإسلام الأمريكية على أنه محمد الذي أوحي إليه)، ومالكوم إكس والسيد فرح خان، أضف لذلك إعجابها كالعادة (بأمانة الراعي السوداني)!
ولكن السيدة (ويسلي) خيبت ظنوني، حين رفعت رأسها، وسألتني عن السبب وراء طلبي، فأجبتها عفواً ، ولكنني كنت أظن أنك على علم، بقدوم الشهرالكريم رمضان، حدقت في وجهي ملياً وسالتني:
وما هو هذا الرامادام؟
أسهبت لها في الشرح، وقد تضعضعت آمالي في الحصول على موافقتها، فلاحقتني بلكمة أخري:
وماهي فائدة هذا الرامادام بالنسبة لعملنا هنا في هذه الصالة؟
لم أحر جوابا، ولكن من تحت أنفي ..
البركة مثلاً!
فأحنت راسها مواصلة في نهش الدجاجة، وأجابتني ضد طلبي دون تردد، إذن تجئ في المواعيد وتنصرف في المواعيد، وبرفضها فقد أجابت على سؤال ظل عالقاً بذهني لزمن طويل، لماذا يكون الأسلام في امريكا شاملاً لكل الشهور العربية، عدا رمضان، ولماذا لا يحب الأمريكيون أغنيات رمضان حسن ورمضان زايد.
ثم أطل فجر رمضان وإن اختلفت المطالع.. فقلت الحمد لله إنه ربيع ثان وجمادى الآخرة، إلا أنه رمضان واحد، أو كما قال أحد فقراء السودان.
مضيت إلى العمل في غرة الشهر متوكلاً على الله.
اليوم طويل يا إخوتي طويل، أشك في أنه قد بدأ باكراً على غير عادة البكور، والناس من حولي يمضغون، يمضغون ويمضغون، ويهمهمون ويغمغمون، دون توقف، حتى أشفقت عليهم من أدواء السمنة ومخاطرها، بدأ اليوم، وكأنه لن ينتهي، المطاعم فيه لا تسد لحرمته هذا الرمادام، والناس هنا يشربون، والرمادام (لا يعاين لهم)، وليس هنالك من (ضب) يصوم، حتى يصوم الناس مثله، فيأخذون على ذلك، ولا صلوات وسطى تقام، يسعف وضوؤها الصائم، بجغمة أو جغمتين، من ماء الحنفية المغلي، تسعفانه مثلما فعلتا بالإعرابي في القصة الشهيرة، ولا حساب نصف يوم للأطفال، ولا نصف دقيقة حتى، فهموا لن يكفوا عن قضم البيرغر وشفط الميلك شيك لثانية.
بدأ اليوم والناس يدخنون، ويسفون حتى، يرفعون أكوب البارد في الهواء، يحصلون على آخر قطرة في الكوب او الزجاجة، او العلبة المعدنية، حتى تطقطق جدرانها، وإنهم ليشربون القهوة والكاباشينو، والديكاف، والعياذ بالله والبيرغر( دبل كابينة)، روائحه تأتيني على غير العادة من (بيرغر كنج) مجاور، ماعلمت بوجوده طوال العام، فتأكد لي ساعتها أن لحمه حلال، وأورغانيك، حتى وإن ادعي المسرفون غير ذلك، وأن النكهة طبيعية، حتى لو إدعى علماء الأغذية بأنها صناعية، أقول ولا ادعي بان الأبقار التي ذبحت، هي بالقطع ابقار صديقنا (سانشو) في الأرجنتين، وأن المواعين التي تخدم فيها الوجبات من صنع صديقنا (آفو) في الصين، والأدهى من كل ذلك، أنهم يسبون (بالفاء) حين يغضبون، كم كنت استمتع بتلك الكلمة حتى يوم امس القريب، كلما غضبت من أحد.
ورغماً عن تبتلي الروحي الواضح للعيان، فإن السيدة ويسلي، أصرت على منحي ساعة للغداء، كعادة كل يوم، قالت لي تبدو جائعاً ومنهكاً، فقلت لها:
Duh
وهكذا فإن لم يكن في الأمر أكل، فالأمريكان لا يودون سماع القصة، قلت أخرج أتجول، أتسلى، اسبّح، أمدح، أسرح، اذكر، اتأمل، ادرب النفس على الصبر، والجهد والمجاهدة كما ذكرنا مولانا السمح في سنوات غابرة، خرجت اتجول على غير هدي، المول المجاور، انظر في واجهات المحال التجارية، قلت والشاعر في صوت واحد، دعني أمتع نفسي بالدهشة، فكرة غير صائبة، حدثتني نفسي في قلق، فكرة غير ساخنة في نهار حار، تلجأ فيه الحسان إلى برودة ردهات المول، وعليهن استغفر الله، التنانير، هل ذكرت التنانير؟ والشورتات؟ والبلوزات؟ والخط (ستة) حيث وقف السيد جكسا ذات يوم فصارت الذكري نبأً ومثلا؟؟ أو عيداً قومياً لا أذكر، أو رمزاً للحد الفاصل بين الشهوات؟ يتبضعن ويتلاغين، ويتهنجكن، سبحان الله، مخربشات لجلد الرمادام مهما تجلد، فيعود مثخن بالجراح، عدوت قافلاً إلى مكان العمل، احتمي من عصف الديهايدريشن الجسدي والعقلي، وهنالك…. كانت السيدة ويسلي، تهم بأداء القسم على دجاجتها المشوية، كليهما طازجتين، وكانهما ينتظران وصولي. وسلطة البطاطس.. استغفر الله من البطاطس المسلوق وعليه المايونيز، والباباريكا الحمراء تنتشر باهمال على سطحه، والبقدونس، و(نتفة) كما يقول الشوام (زغيرة هالقد) من الثوم، متوجة بزيت الزيتون، وارد صقلية من الشجر للحجر، والدجاجة يا سادتي، تربية السيد بيردو على يديه الطيبتين، طازجة، مبهرة و(مارينيتد)، ظلت تدور داخل الشواية، مثل رائد فضاء في كبينته، حتي نضجت وحان قطافها، وهاهي ذي عارية دون حياء من الرمادام، تؤكل لا حيلة لها ولاقوة، وعلى غير عادتها، فقد سمعت السيدة ويسلي تتمطق، وكأني بالدجاجة والشاعر يغني، ترفع ساقاً وتحط ساق، مكرفسة تناضل في نومتها الأبدية، وعلي غير عادتها في ثلاثة سنوات قضيناها نعمل معاً، قالت لي.. تفضل! وهي تفض غطاء مشروب الاسنابلز، المنكه بنكهة النكهات جميعاً، يا معتصماه.
وابليس جالس حين دخلت مكتبي، يقرأ في مقال على الانترنت، من قال انه يحبس هنا؟؟ رأيته بام عيني، حسابه على الفيس بوك، يعزي ويبارك، ويمجد في كتائب الجهاد الالكترونية، ومن قال انه يحبس في السودان؟؟ أما بلغكم قرآنه وآية (العارف)؟ أما سمعتم بسورة (المجمجة)؟ وأشار بيده الى حيث قال (أدونيس): إن الجحيم هو أن تقتل لتدخل الجنة، فقلت في سري رمضان كريم على أهلنا في السودان وغزة ، وحمدت الله أنني في وضع أفضل من ملايين الملايين، الذين يصومون السنة كاملة، أحنيت راسي ووضعته على ساعدي تهيؤاً لنومة القيلولة، فرنت التلفونات جميعا، والنوتيفيكيشانات كلها من فيس ووتس واسكايب ولاين وملح، وصاحت بصوت واضح بسؤال سوداني تاريخي:
الساعة عندكم كم هسة؟؟
نحنا فطرنا
فكاد حرف الفاء يخرج من فمي.
تاج السر الملك